تصنيفات المقال:
العقيدة الإسلامية
تاريخ النشر: 23 رجب 1436هـ الموافق 11 مايو 2015م
عدد الزيارات: 6500
إنّ الله تبارك وتعالى لما خلق الناس خلقهم جميعاً على التوحيد، كما رواه مسلم في صحيحه والنسائي في سننه من حديث عياض بن حمار المجاشعي رضي الله عنه قال: (خطبنا النبي صلى الله عليه وسلم ذات يوم خطبة، فكان مما قال فيها: ألا إن الله أمرني أن أعلمكم ما لم تكونوا تعلمون -أو ما جهلتم- كل مال نحلته عبداً فهو حلال، وإني خلقت عبادي حنفاء فاجتالتهم الشياطين، فحرموا عليهم ما أحللته لهم، وأمروهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإني أنزلت إليك كتاباً لا يغسله الماء، فاقرأه نائماً ويقظاناً، وإن الله أمرني أن أحرِّق قريشاً قلت: ربي! إذاً: يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة، قال: استخرجهم كما أخرجوك، واغزهم نغزك، وأنفق فسننفق عليك، وأرسل جيشاً نرسل معه خمساً).
وفي هذا الحديث: أن الله تبارك وتعالى قال إنه خلق الناس على الإسلام جميعاً: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه)، (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) [الروم:30].
فأول مأمور به: التوحيد، وهو الذي ينجيك من الخطر الأول -الشَرَك الأول- الذي ينصبه الشيطان لك، التوحيد الذي أهملته كثير من الجماعات الإسلامية التي تدعو الناس إلى الله؛ لكن ليس على طريق الرسل.
التوحيد نوعان: توحيد في الإثبات والمعرفة، وتوحيد في القصد والطلب.
أنا لا أتصور أن تطلب من لا تَعرف، إذاً: لابد أن تعرف حتى تطلب،:فأول نوعي التوحيد: توحيد الإثبات والمعرفة، وهذا متضمن لذات الله تبارك وتعالى وأسمائه وصفاته، وأنت إذا قرأت خواتيم سورة الحشر رأيت الأسماء الحسنى كأنها منظومة لؤلؤ، تهز القلب هزاً: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ * هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ * هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى) [الحشر:22-24]، وكذلك إذا تأملت كثيراً من الآيات تجدها مختومة بصفات لله تبارك وتعالى.
وهذا التوحيد (توحيد الإثبات والمعرفة) هو المذكور في قوله تبارك تعالى: (وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) [الأعراف:172]، هذا هو توحيد الإثبات والمعرفة، عرفناه وأثبتنا له الأسماء الحسنى والصفات العلى، وأثبتنا له الكمال المطلق.
النوع الثاني من التوحيد: هو توحيد الألوهية: توحيد العبادة أنك تقصده ولا تقصد أحداً غيره:( وَقَالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ) [النحل:51] ..( وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ لا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ) [المؤمنون:117]، وقال تعالى: (وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ )[الزخرف:45] .. (وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ )[البقرة:163] والقرآن مليء بهذا الجنس.
وسورة (الكافرون) في توحيد الطلب والقصد، إذاً: تعرف ربك أولاً حتى تحبه، وتمثل قول القائل:
أنت القتيل بكل مـن أحببته فاختر لنفسك في الهوى من تصطفي
أي: اختر أي قتلة تُقتلها، وإنما يختار المرء على قدر نبله وشرفه وتوحيد قصده. أحببت ربك تقتل فيه، أحببت نبيك تقتل فيه، أحببت المال.. أحببت النساء.. أحببت الجاه.. تقتل فيه.
فهذا التوحيد (توحيد الإثبات والمعرفة) ضروري لتوحيد القصد والإرادة، كلما عرفته أحببته، واعلم أنه لا يغيثك إلا هو، وليس لك منجى ولا ملجأ منه إلا هو أيضاً، فكلما عرفته اطمأن قلبك؛ لأن كل شر نفسي على وجه الأرض سببه اضطراب القلب وخوفه.
ما عمل الطب النفسي كله لأجل طمأنة القلب من ناحية المستقبل، فالطب النفسي كله وقف على عتبة آية من كتاب الله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) [الرعد:28].
ونحن نعلم أن المحب مولع بذكر من يحب، ولذلك شرع النبي -صلى الله عليه وسلم -لنا أذكار الصباح والمساء وغيرها من الأذكار الموفقة؛ حتى تكون ذاكراً لربك في كل وقت، فما بال الناس لا يذكرون الله في الصباح ولا المساء، ولا يسبحونه وهم يتفكرون في مظاهر الكون؟! ولا يحبونه. ولو أحبوه لشغفوا بذكره رغماً عنهم.
والنبي -صلى الله عليه وسلم- علمنا الذكر؛ لأنه أولاً يشفي غليل القلب ويريح أعصابه، هذه فائدة الذكر الأولى.الفائدة الثانية: أنه يحصنك من الشيطان، كما رواه الترمذي وأحمد وابن حبان والحاكم من حديث الحارث الأشعري الذي أوله: (إن الله تبارك وتعالى أمر يحيى بن زكريا بخمس كلمات، وأمره أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن..) الكلمة الخامسة في هذا الحديث، (قال يحيى عليه السلام: وآمركم بذكر الله، فإن مثل ذلك كمثل رجل طلبه العدو سراعاً في أثره، فاحترز في حصن حصين، وإن العبد يحرز نفسه من الشيطان بذكر الله).
هذه فائدة الذكر، حتى شرع الله لنا أن نذكره في أشد المواقف وهو لقاء العدو: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [الأنفال:45]، أول ما تذكر أنك مع الملك وفي معية الملك يستمد قلبك قوة، وفي حديث عياض بن حمار الذي ذكرناه آنفاً، قال الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم: (وأرسل جيشاً نرسل معك خمسة) يعني من الملائكة.
فلابد أن تعرف ربك أولاً، ومن العجيب أن المرء قد يمارس مهنة من أدق المهن التي تحتاج إلى تركيز، وتحتاج إلى ذكاء عالٍ، فإذا هو في خلال سنة يأخذ دورة أو دورتين أو عشراً أو عشرين، وإذا به أحد المرموقين في هذا الفن مع شدة تعقيده، فإذا سألته عن ربه وجدته أجهل الناس به، مع أن معرفة الله أسهل من ذلك بكثير، فهل ذلك لأن معرفة الله صعبة؟ لا. ولكن أهملوا، ولذلك المرء لا يغفر له جهله إذا لم يسع إلى إزالته.
نحن معاشر أهل السنة وإن كنا نَعذر بالجهل في أصول التوحيد أي: نقول لا يكفر؛ لكننا لا نرفع المؤاخذة عن الجاهل، إذا كان بإمكانه أن يرفع جهله، لماذا عرف أعقد من ذلك وترك معرفة الله وهي أسهل وأيسر؟! قال الله عز وجل: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) [القمر:17] فمن أراد الوصول إلى الله وصل، لكن لا يصل إليه ويوحده إلا إذا عرفه وأحبه.
القرآن كله قائم على التوحيد وجزاؤه وواجباته، والشرك وجزاء أهله، فمن أول الفاتحة إلى الناس لا تخرج عن هذا الموضوع على الإطلاق: التوحيد وحقوقه وجزاء أهله، وحقوق التوحيد من الأمر والنهي.
فكل الأوامر والنواهي من حقوق التوحيد بمقتضى أنك رضيت بالله رباً، أي: تسمع وتطيع فيما أمرت به، وتنتهي عما نهيت عنه: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ) [يوسف:40] أي: لا يحكم فيك إلا الله.
وذكر جزاء الموحدين مسألة ضرورية، حتى يحفز العاملين إلى العمل، فنصب الجزاء سنة قررها القرآن وذكرها النبي -صلى الله عليه وسلم -كثيراً، وهو يتكلم عن الجنة، تكلم كثيراً عن جزاء المطيعين لربهم تبارك وتعالى، وفصل هذا الجزاء وفصل نعيم الجنان، وكلما زاد التفصيل زاد التصور؛ لدرجة أنه فصل مرة بعض نعيم الجنان، فسأله رجل: (يا رسول الله! ثيابنا في الجنة أننسجها بأيدينا أم تفتق عنها ثمار الجنة؟ فضحك الناس، فقال: مم تضحكون، من جاهل يسأل عالماً؟ نعم يا أعرابي! تفتق عنها ثمار الجنة).ويسأله في أدق التفاصيل، فيقول: أنت في عليين، في المقام العالي، ونحن دونك، فهل نراك؟ يسأله في مثل هذه الدقائق، وما أغراه في هذا إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم فصَّل، وهذا كله دافع للعمل.
فأول ما ينبغي عليك أن تعلمه حتى تنجو من الشَرَك الأول الذي ينصبه الشيطان: أن توحد ربك، توحيد الإثبات والمعرفة، تحبه أولاً، فإذا أحببته جاء توحيد الطلب والقصد تلقائياً، لا تشعر بكلفة الأوامر ولا النواهي على الإطلاق.
اللهم إنا نسألك أن تشفي شيخنا الحويني شفاءا لا يغادر سقما.