تصنيفات المقال:
الآداب والأخلاق
تاريخ النشر: 10 شهر ربيع الأول 1438هـ الموافق 10 ديسمبر 2016م
عدد الزيارات: 31978
الدروس المستفادة من حادثة الإفك فَضِيْلَة الْشَّيْخ أَبِي إِسْحَاق الْحُوَيْنِي حَفِظَه الْلَّه مقدمة :إن الْحَمْد لِلَّه تَعَالَى نَحْمَدُه وَنَسْتَعِيْن بِه وَنَسْتَغْفِرُه وَنَعُوْذ بِاللَّه تَعَالَى مِن شُرُوْر أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَات أَعْمَالِنَا مَن يَهْدِى الْلَّه تَعَالَى فَلَا مُضِل لَه وَمَن يُضْلِل فَلَا هَادِى لَه وَأَشْهَد أَن لَا إِلَه إِلَّا الْلَّه وَحْدَه لَا شَرِيْك لَه وَأَشْهَد أَن مُحَمَّداً عَبْدُه وَرَسُوْلُه. أَمَّا بَعــــــد. فَإِن أَصْدَق الْحَدِيْث كِتَابُ الْلَّه تَعَالَي وَأَحْسَن الْهَدْي هَدْي مُحَمَّدٍ صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم ، وَشَّر الْأُمُور مُحْدَثَاتُهَا وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدَعِه وَكِلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَة وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي الْنَّار الْلَّهُم صَلّى عَلَى مُحَمّدٍ وَعَلَى آَل مُحَمِّد كَمَا صَلَّيْت عَلَى إِبْرَاهِيْم وَعَلَى آَل إِبْرَاهِيْم فِي الْعَالَمِيْن إِنَّك حَمِيْدٌ مَجِيْد ، وَبَارِك عَلَى مُحَمدٍ وَعَلَى آَل مُحَمِّد كَمَا بَارَكْت عَلَى إِبْرَاهِيْم وَعَلَى آَل إِبْرَاهِيْم فِي الْعَالَمِيْن إِنَّك حَمِيْدٌ مَجِيْد.
الْدَّرْس الْأَوَّل مِن الْدُرُوس الْمُسْتَفَادَة مِن حَادِثَة الْإِفْك :
متى أُصيبت أمنا عائشة_ رضي الله عنها_ بحادثة الإفك؟هذا هو الدرس الأول إن شاء الله تعالي من سلسلة من الدروس المستفادة من حديث الإفك , وحديث الإفك فقد أصيبت به أمنا عائشة - رضي الله عنها - بعد غزوة خرجت فيها مع النبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - وهي غزوة بني المصطلق أو المريسيع ، وكانت في السنة الخامسة من الهجرة , في هذا الحديث عبارة عن قصة أو القصة التي حدثت حكتها لنا أمنا عائشة - رضي الله عنها - بملابستها وأخرجها لنا الإمامان الكبيران الجليلان البخاري ومسلم - رحمهما الله تعالي -. قالت عائشة - رضي الله عنها -: " كان النبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم – إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فآيتهن خرج سهمها خرجت معه فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج سهمي عليهن "عليهن: أي علي بقية أمهات المؤمنين . " فلما قضينا الغزوة وقفلنا راجعين إلي المدينة مع الرجال الذين كانوا يرحلون لي " وكانت السيدة عائشة علي بعير وعلي البعير هودج هذا الهودج الذي كان قديمًا في أيام الحياء رحم الله الحياء كانت العروس تزف قديمًا علي الجمل زمان ويوضع عليها ستار أيام الحياء الهودج: هذا هو الشيء الصندوق الذي يصنع من القماش ، ويوضع علي ظهر البعير ,وكانت السيدة عائشة - رضي الله عنها - تركب علي هذا البعير ويرحل لها جماعة من الصحابة .يرحلون لها: أي يهتمون بأمرها فأرادت أن تقضي حاجتها فقالت لنفسها أسبق الجيش فأقضي حاجتي وعندما يأتي هذا الجيش أمشي معه ، وفعلًا سبقت الجيش مع الصحابة الذين كانوا يرحلون لها ، أوقفت البعير ونزلت وتباعدت في الصحراء فلما قضت حاجتها وهي راجعة تحسست صدرها فإذا عِقدٍ لها قد أنفرط فرجعت تبحث عن العقد ، فجاء الذين يرحلون لها فاحتملوا الهودج ووضعوه علي البعير واستنفروه ومضوا علي أساس أن السيدة عائشة موجودة بداخل هذا الصندوق بداخل الهودج .
قالت عائشة - رضي الله عنه -: " ولم ينكروا خفة الهودج " لماذا لم يدرك الذي كانوا يرحلون لأمنا عائشة رضي الله عنه أنها ليست في الهودج؟ لم يقع في روع أحدهم أنه ليس هناك أحد بداخل الهودج . أولاً! قالت: " لأن النساء كنا إذا ذاك " أي في أيامهن "يأكلن العُلقة من الطعام فهذا سبب في خفة الهودج .
ثانياً :قالت: " وكنت جارية حديثة السن " صغيرة مظنة للخفة ، وهم جميعًا مجموعة من رجال لو أن رجلاً واحدًا حمل الهودج لعله يستصعب ، لكن جميعًا حملوا الهودج فما شعر أحد أن الهودج خالي من السيدة عائشة رضي الله عنها .
وفعلًا استنفروا البعير ومضوا مع الجيش وهي بعدما رجعت رضي الله عنها وبحثت عن عِقدِها وجاءت به قالت رضي الله عنها: " فأمنت ديارهم فلم أجد فيها داع ولا مجيب " وهي جارية حديثة السن ، ومعلوم مسألة الخوف عند النساء بقيت وحده رضي الله عنها في الصحراء.
قالت: " فقعدت مكاني وعلمت أنهم لو افتقدوني سيرجعون إلي " ما يدل علي فطن تدبير الله عز وجل لها: أنها لا تمشي في طرق الصحراء تبحث عنهم وإلا تضل ، لأن الصحراء تحتاج إلي رجل خبير ماهر بطرق الصحراء وإلا يموت . حادثة حدثت لأحد المصريين ضل الطريق في الصحراء:من خمس سنوات نشرت الجرائد أن رجلًا مصريًا يعمل في السعودية وجاء هنا إلي مصر في أجازة ، وذهب في صحراء أسوان لكي يزور واحد من هؤلاء الذين يسكنون تحت القباب ، ولم يكن خبيرًا بطرق الصحراء المهم تاه منه الطريق فعثروا علي جثثهم جميعًا متعفنة بعد خمسة عشر يومًا ، فماتوا جميعًا علي معصية " لا تشد الرحال إلا إلي ثلاث مساجد " فهذا غير خبير بطرق الصحراء فتاه وضل ومات .
فقعدت السيدة عائشة - رضي الله عنها - مكانها. قالت: " وأخذني النعاس فنمت ما استيقظت إلا علي صوت إنسان يسترجع " ما أفاقت من نومها إلا علي صوت رجل يقول: إن لله وإنا إليه راجعون , قالت: " فنظرت فإذا صفوان بن المعطِل السلمي ثم الذكواني فخمرت وجهي بجلبابي " أي أنزلت النقاب علي وجهها " فوالله ما كلمني كلمة وكان يراني قبل فرض الحجاب فعرفني ، فوضع رجليه علي يدي البعير فأناخه ثم ركبت وانطلقنا علي أثر الجيش فأدركناهم في نحر الظهيرة " انظر من بالليل أدركوهم ثاني يوم في نحر الظهيرة أي في عز الحر " فخاب من الناس من خاب" ، من الذين خاضوا في حادثة الإفك ؟عبد الله بن أبي بن سلول هذا رأس المنافقين زعم أن هناك علاقة ما بين صفوان وبين السيدة عائشة ، والدليل أنه قادم بها بالليل وتلقي هذا الكلام جماعة من الصحابة منهم حسان بن ثابت ، ومسطح بن أثاثة , وحمنة بنت جحش وغيرهم ممن خاض في حديث الإفك كما قال الله - عز وجل -: ﴿ إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ ﴾ (النور: 11-15) تلقوا هذا الحديث ونقلوه ، وما تحققوا من صحته أو كذبه ,قالت: " فرجعت المدينة فمرضت شهرًا وأنا لا أدري ما يتكلم الناس في ؟! " كل العالم يعرفون الخبر ويأتي علي صاحب الخبر وينقطع , حتى خرجت يومًا مع أم مِسطح ، وهي ابنه خالة أبي بكر الصديق أي تربطها بالسيدة عائشة رضي الله عنها قرابة لتقضي حاجتها ولم يكن في البيوت آنذاك كُنف ، لم تكن دورات المياه اتخذت بداخل البيوت حين كان الذي كان يريد أن يقضي حاجته كان يسير في الصحراء مسافة بعيدة حتى يقضي حاجته ،.
مايدل علي أنفة العرب من اخذ الكُنُف في البيوت: وهذا واضح أيضًا من حديث البخاري أن سودة بنت زمعة - رضي الله عنها - وهي زوج النبي - عليه الصلاة والسلام - ، وكانت امرأة بدينة خرجت إلي الصحراء ذات يوم لتقضي حاجتها فأبصرها عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وقال لها:"يا سودة أنظري كيف تخرجين فو الله ما تخفين علينا ". فغضبت سودة ، ورجعت إلي النبي- صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - تشتكي عمر وكان في بيت عائشة - رضي الله عنها - فدخلت فحكت للنبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - ما حدث ,قالت عائشة - رضي الله عنها - راوية الحديث: " وإنه ليتعرق عرقًا في يده " العرق: الذراع الأمامي للشاه ، فيتعرق عرقًا: أي يأكل اللحم , الذي بين العِرق والعظم,نزل عليه الوحي ، وكان إذا نزل عليه الوحي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - يتصبب عرقًا في اليوم الشديد البرد من ثقل ما يوحى إليه ﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا ﴾ (المزمل:5)من ثقل ما يوحى إليه ثم سُرِّيَ عنه فقال لها: " إن الله قد أذن لكن في قضاء حوائجكن " أي لا جناح عليكن أن تخرجن إلي الصحراء ,. السيدة عائشة تقول: " أن متبرزنا كان في الخارج ، ولم تكن العرب تتخذ الكنف في البيوت " .قالت: " فلما رجعنا عثرت أم مِسطح في مِرطها " أي في ملابسها فقالت: " تعس مسطح فقالت عائشة: فأنكرت عليها وقلت لها: أتسبين رجلاً شهد بدرًا ؟! فقالت أم مِسطح لعائشة: أي هنتاه " ( هنتاه ) يا ابنتي " ألا تعلمين ما يُقال ؟! قالت: وما يُقال ؟! " فسردت لها حديث الإفك ، وما يتكلم الناس به عنها . قالت: " فازددت مرضًا علي مرضي ، وقالت: وكان يريبني أني لا أجد اللطف من رسول الله - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - هذه المرة ما كنت أجده في المرات السابقة " وصلت إلي تفكير . لماذا لا تجد اللطف الذي كانت تجده من الرسول - عليه الصلاة والسلام - إذا مرضت ؟!. كل مرة تمرضها قبل ذلك كان الرسول - عليه الصلاة والسلام - يحنو عليها ويتلطف بها جدًا ، أما هذه المرة فمرضت ومع ذلك ما تلطف بها ، وما رأت منها ذاك اللطف إنما كان يدخل عليها وهي مريضة وعندها أمها أم رومان فيلقي السلام ثم يقول:" كيف تيكم ؟" أي كيف هذه . ما تعودت السيدة عائشة من النبي - عليه الصلاة والسلام - لاسيما في المرض هذا الجفاء الآن عرفت ، لماذا يقول كيف تيكم ؟! ولا تجد منه اللطف التي كانت تجده في مرضها قبل ذلك .
قالت: " فاستأذنت النبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - أن آتي أبويا لأستيقن الخبر ، فأذن لها . فذهبت إلي أمها فقالت: يا أم أصحيح ما يقولون ؟! قالت: يا بنيتي هوني عليكي فو الله ما من امرأة وضيئة قط ولها ضرائر إلا أكثرن عليها . فقالت عائشة: سبحان الله قد قيل " أي هذا الخبر صحيح أي يخوضون في حديث الإفك " قالت: نعم . قالت: فبكيت يومي وليلتي ، وطفق النبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - يستشير أصحابه في فراق أهله أو إمساكها فسأل أسامة بن زيد فقال له: سأله عن عائشة وما يعلمه عنها ، وهل عليها جربت ريبًا قبل ذلك ؟! فأشار عليه أسامة بما يراه من براءة أهله ، وسأل علي بن أبي طالب فقال له: يا رسول الله ما يحزنك النساء غيرها كثير طلقها وإن تسأل الجارية تصدقك " أي تعطيك الخبر اليقين والجارية هي بريرة مولاة عائشة ، وملازمه لها فأرسل النبي- صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - إلي بريرة . قال: " أي بريرة ما تعلمين من حال مولاتك ؟! قالت: يا رسول الله ما أعلم إلا خيرًا غير أنها فتاة " أي جارية " حديثه السن تعجن العجين ثم تتركه فتأتي الداجن فتأكله " تعجن العجين وتتركه فيأتي الدجاج ويأكل العجين ، هذا عيب السيدة عائشة " لكن لا أعلم عنها إلا خيرًا " حينئذ صعد النبي المنبر ، وقال: " أيها الناس من يعذرني من رجل بلغني أذاه في أهلي ؟! فو الله ما أعلم عن أهلي إلا خيرا .
فقام سعد بن معاذ " ذاك الذي اهتز له عرش الرحمن يوم مات ، وكان زعيم الأوس قام وقف " فقال: يا رسول الله إن كان من الأوس ضربت عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتني فضربت عنقه . فقام سعد بن عبادة زعيم الخزرج فقال لسعد بن معاذ: والله لا تستطيع ولا تقدر علي ذلك فقام أُسيد بن حضير عم سعد بن معاذ فشتم سعد بن عبادة ، وقال: إنك منافق تجادل عن المنافقين وقام الجميع في المسجد ، وكاد الحيان من الأوس والخزرج أن يقتتلان في المسجد فمازال النبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - يشير إليهم بيده ويخفضهم حتى سكتوا وسكت " وكانت أم رومان أم السيدة عائشة وأبو بكر الصديق في هذه المحنة الشديدة يلازمان عائشة - رضي الله عنها - .
فذات يوم دخل النبي - عليه الصلاة والسلام - فقال لعائشة وجلس وهذا أول يوم يجلس عندها منذ خاض الناس في حديث الإفك فحمد الله وأثني عليه بما هو أهله ، ثم قال: " يا عائشة إن كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري الله ، فإن العبد إذا فعل الذنب ثم تاب منه تاب الله عليه ، وإن كنتِ بريئة فسبرئكي الله تعالي . قالت عائشة: فقلت لأبي أجب رسول الله - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - فقال: والله يا بنيتي ما أدري ما أجيبه ، فقالت لأمها: أجيبي النبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم -. قالت: يا بنيتي والله ما أدري ما أجيبه . قالت: فقمت فقعدت وكنت جارية حديثه السن لا أقرأ كثيرًا من القرآن " أي لا تحفظ كثيرًا من القرآن " فقلت إنني إن قلت لكم إنني بريئة والله يعلم أني بريئة لا تصدقونني ، وإن قلت لكم إنني فعلت ذلك والله يعلم أني ما فعلته لتصدقونني فوالله ما أجد لكم مثلًا إلا كما قال أبو يوسف يعقوب ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ ﴾ (يوسف: 18) . قالت: " والله ما خرج أحد من البيت إلا أنزل الله براءتي في عشر آيات من القرآن من أول قوله عز وجل: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ (النور:11) إلي تمام العشر آيات التي سنذكرها بعد إن شاء الله . قالت عائشة رضي الله عنها: " والله إني لفي نفسي أحقر من أن ينزل الله في قرآنًا ، إنما كنت أرجو أن يري الله رسوله - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - رؤيا يعلم بها براءتي ، وإني في نفسي لأحقر من أن ينزل الله في قرآنًا " فلما نزل ذلك علي النبي- صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - قام ضاحكًا يستبشر وكان - عليه الصلاة والسلام - كما في حديث كعب بن مالك " إذا سُرَّ استنار وجهه كأنه قطعة قمر " . فقال لعائشة: " أبشري إن الله أنزل براءتك ، فقالت أمها: قومي إليه تحمديه ، فقالت عائشة: والله لا أقوم له ولا أحمده إنما أحمد الله - عز وجل - فأقسم أبو بكر الصديق وكان ينفق علي مسطح بن أُثاثة وكان فقيرًا يتيمًا أقسم أنه لن يعطيه بعد ذلك نفقة فنزل قول الله - عز وجل -:﴿ وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ (النور:22) ، فقال أبو بكر: بلي أحب أن يغفر الله لي وأجري النفقة علي مسطح ، وقال: والله لا أمنعه منها أبدا " .
هذا حديث الإفك وهو كما علمتم من السياق يتعلق بعرض أم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - ، وكانت محنة شديدة جدًا علي المسلمين جميعًا لأن هذا يمس زوجة النبي - عليه الصلاة والسلام - حتى ورد في بعض الروايات أن هذا المنافق زعم أن صفوان فجر بها أي زني بها ، وأنه لم تزني امرأة نبي قط إطلاقًا الزنا عيب كبير لا يمكن أن يلطخ به نبي . مالمراد بقوله عز وجل عن امرأة لوط وامرأة نوح ﴿ فَخَانَتَاهمُا ﴾ (التحريم: 10) ؟ قال بن عباس رضي الله عنه: "ما زنت امرأة نبي قط إنما خانتاهما بالشرك أي بالشرك ، وأنهما كانتا تدلان القوم علي مواضع نوح ولوط - عليهما السلام –" . فالسيدة عائشة - رضي الله عنها - سردت هذا الحديث وفيه فوائد كثيرة لذلك قلت هذا الدرس الأول لأنه مسلسل نقف علي فوائده ونخرجها ، ونأخذ العبرة منها .قالت عائشة - رضي الله عنها -: " كان النبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه " في هذا جواز استخدام القرعة عند الخلاف .
حكم استخدام القرعة :في هذا جواز القرعة عند الخلاف ، وهذا رد علي من أنكرها كأبي حنيفة وأصحابه - رحمهما الله تعالي - فإنهم قالوا أنها تشبه الأزلام فمنعوها ولعلهم لم يبلغهم هذا الحديث أو الأحاديث الأُخر التي وردت في السنة النبوية ونشير إليها في هذا البحث . فإن القرعة لا تكون إلا عند السَفاح والخلاف: ولا تكون في الرضا أبدًا لأن التراضي يحسم المسألة ، بخلاف إذا ما اختلف الناس في شيء فيمكن أن تجري القرعة بينهم . الدليل علي جواز القرعة:هذا الحديث :" كان النبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - إذا أراد سفرًا أقرع بين نسائه فأيتهن خرج سهمها خرجت معه " ، وهذه القرعة فعلها ثلاثة من الأنبياء .
الأنبياء الذين استخدموا القرعة :استخدام القرعة في المشكلات استخدمها ثلاثة من الأنبياء,1- يونس - عليه السلام – 2-، وزكريا - عليه السلام - ،3- ونبينا - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - . أما يونس عليه السلام: فقصته معروفة في آخر الصافات ، وفيه قول الله عز وجل :﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾ (الصافات:141) القصة: أن يونس - عليه السلام - لما فرَّ وركب البحر أوشكت السفينة علي الغرق فقال القبطان قائد السفينة: أيها الناس فيكم فليخرج ,ما خرج أحد فقالوا إذًا نعمل قرعة ، فإذا خرج السهم علي واحد من الذين في السفينة فهذا يحضر نفسه لأننا سنلقيه في البحر ، عملوا القرعة فوقع السهم علي يونس - عليه السلام - فاستعظموا أن يلقوا بنبي في البحر قالوا لا نجري القرعة مرة أخرى ، فأجروا القرعة مرة أخري فجاءت علي يونس أيضًا فاستعظموا أن يلقوا بنبي في البحر ، فصنعوا القرعة مرة ثالثة فجاءت علي يونس :﴿ فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ ﴾ أي من المغرقين فألقوا به في البحر﴿ فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ ﴾ (الصافات : 142) ، وقد وقع عليه اللوم ، ووقعت عليه القرعة فالقوه في البحر , . استخدام زكريا عليه السلام للقرعة: واستخدمها زكريا عند الخلاف في كفالة مريم - عليها السلام - ﴿ ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ (آل عمران:44) ، اختصم زكريا - عليه السلام - وقال مريم هذه خالتها تحتي فأنا أولي بها ، لأن الخالة كما في الحديث الصحيح " الخالة بمنزلة الأم " فيقول: خالتها تحتي فهي كأمها فأنا أولي بكفالتها . وبني إسرائيل يقولون: هذه أم نبينا فنحن أولي بها . فماذا يفعلون ؟ هيا بنا نأتي بالأقلام التي نكتب بها التوراة كتاب الله المقدس ، ونأتي علي الماء الجاري في الجدول ، ونضع أقلامنا يلقون أقلامهم فأيما قلم وقف ولم يندرج مع سيل الماء فهذا الذي يكفل مريم ، فعلًا أتوا بالأقلام التي كانوا يكتبون بها التوراة وألقوها في الماء الجاري فوقف قلم زكريا وكان نبياً وهذه آية له ﴿ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ ﴾ ، فاقترعوا فخرج السهم لزكريا - عليه السلام - فكفل مريم . حكم الأخذ بشرع من قبلنا :هذا يدل علي أن القرعة كانت في شرع من قبلنا من الأنبياء ، وأنهم كانوا يستخدمونها وجاء شرعنا فأقرها ، وهنا مسألة مهمة يخلط فيها بعض الناس خلطًا تبع هواه , شرع من قبلنا لا يحتج به عندنا إلا إن كان شرعنا موافقًا لهم ، لأن العبرة بشرعنا وما شرع لنا نبينا - عليه الصلاة والسلام - ، لا بما شرع موسي لليهود، أو شرع عيسي لبني إسرائيل العبرة بشرعنا نحن ، فإن كان في شرع من قبلنا حكم شرعي وكان في شرعنا شيء يخالف هذا الحكم الشرعي فالعبرة بشرعنا نحن لا بشرع من قبلنا , ولذلك في قصة يونس - عليه السلام - أنهم ألقوا رجل في البحر لأن السفينة تغرق. هل يمكن أن نحتج بقصة يونس عليه السلام في موقف مشابه؟ العلماء فرضوا هذه الصورة قالوا إذا كان قوم في سفينة ، وكانت الحمولة ثقيلة بحيث أننا لو القينا بعض الناس ، أي السفينة كان فيها ألف رجل , يمكن أن نلقي مائة رجل بحيث ننجي التسعمائة ، لا يمكن أن يقال نلقي بعض الناس أو واحد فقط في البحر من أجل نجاة الكثير ، ولا يحتج أحد بقصة يونس ، لماذا ؟ لأن في شرعنا ما يخالف هذا الفهم ، وهو قوله - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم –: "المسلمون تتكافأ دماءهم " لأن الدماء معصومة بعصمة الإسلام فلا يجوز لك أن تهدر دم رجل لتحفظ دم رجل آخر إما أن يموتوا جميعًا ، وإما أن يحيوا جميعًا ، لا يجوز لك أن تعتدي علي دماء الخلق لأجل أن تنقذ دم آخر "المسلمون تتكافأ دماءهم " . قال الإمام الطحاوي - رحمه الله -: ما أعلم بين العلماء خلافًا أن هذا الحديث خاص بالديات والقصاص والدماء ، إن جاء الأمير فقتل رجلاً من سواد الناس قُتل بهم لا يُقال هذا دم أمير ، وهذا دم فقير الدماء واحدة أمام الشرع ، لذلك لا يجوز لك أن تلقي برجل في الماء لتحفظ دم رجل آخر . لماذا يحرم العلماء الإجهاض ؟ لأن هذه نفس حرمتها كحرمة الأم التي تحمل هذه النفس ، فلا يحل لك لأجل الأم أن تهدر هذه النفس ، إلا في ضروريات أو في صور معروفة ليس هذا بيانه وتفصيله ، الجنين إذا نُفخ فيه الروح صار نفسًا يُعصم دمه ولا يهدر . حكم التماثيل في شرع من قبلنا ثم شرعنا: * فشرع من قبلنا* فسليمان عليه السلام كانت التماثيل مباحة له ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ ﴾ (سبأ:13) الجن كانوا يصنعون لسليمان تماثيل لا يأتي رجل فيقول التماثيل مباحة ، لأن الله - سبحانه وتعالي - قال: ﴿ يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ ﴾ هذا كان في شرع سليمان . *أما في شرعنا * فقد قال النبي- صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم -:
" إن اشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون الذين يضاهون خلق الله - عز وجل - يقال لهم: أحيوا ما خلقتكم " قال العلماء: لم يختلف أحد في أن الرسم المجسم( التماثيل )حرام ، لم يختلف أحد من العلماء في هذه الصورة ، وتعجب لهذه التماثيل المنتشرة في البلد نكتفي برمسيس واحد حتى صنعوا رماسيس كثيرة منها الصغير الكظم ، ومنها الوسط ، ومنها الكبير ، وهذا كله حرمه الله - عز وجل - ويصنعونه الفنون التشكيلية والفنون الجميلة ، الفنون التشكيلية هذه خاصة بالفن والنحت ، ويكرمون النحاتين ، والذكري السنوية الأولي والثانية والثالثة والمعارض ، ويتبنون أسرهم ، وينفقون عليهم عندما مات العالم الجليل الشيخ المطيعي ما علم أحد في مصر إطلاقًا بموته ، مع أن هذا الرجل كان آخر العلماء في مصر ، يموت مثلًا قارئ للقرآن الكريم ما يعلم أحد بموته إلا إن كان من هواه قراءة صفحة الوفيات ، إنما الذكري السنوية لعبد الحليم حافظ ، أم كلثوم صفحات في الجرائد والمجلات. كيف يبلغ البنيان يومًا تمامه إذا كنت تبنيه وغيرك يهدم هذه البركة الممشوقة بسبب هذه المعاصي الكثيرة جدًا المنتشرة . لا يجوز لأحد أن يتخذ التماثيل: إذا كان فيكم رجل له محل قماش لا يجوز له أن يصنع تمثالًا في الفترينة ، ويلبسه الثوب من أجل أن يعمل دعاية للبدلة أو الفستان هذا لا يجوز له ، يجب عليه أن يكسر هذا التمثال وإلا هو معرض أشد التعريض من وعيد الشديد في قوله - عليه الصلاة والسلام -: " إن اشد الناس عذابًا يوم القيامة المصورون الذين يضاهون خلق الله - عز وجل - " لا يجوز أن يحتج بشرع من قبلنا علي وجود التماثيل : لأنه ورد في شرعنا ما يحرمه والعبرة بشرعنا لا بشرع غيرنا كذلك لا يجوز أن يُتخذ المسجد علي قبر بدعوي أن الله - تبارك وتعالي - قال في سورة الكهف ﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾ (21) فيقول: أن الله - عز وجل - حكي عن هؤلاء الناس ولم يستنكر عليهم ، فنقول: أن - الله تبارك وتعالي - قد يحكي أقوال الكفرة ولا يعقب عليها ، فهل يفهم من هذا أنه يقر بهذا الكلام ؟ لا ، لا يجوز اتخاذ مسجد علي قبر هذا كما قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالي: ( إن المسجد والقبر لا يجتمعان في دين الإسلام )، لأن النبي - عليه الصلاة والسلام - قال في آخر قول له قبل أن يموت ، وكان يعالج سكرات الموت وعلي وجهه خميصة وهو يعاني سكرات الموت فيضع هذه الخميصة علي وجهه ويرفعها,ويقول: " لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد ألا إني أنهاكم عن ذلك ألا إني أنهاكم عن ذلك ، ألا إني أنهاكم عن ذلك " ثلاث مرات ، فماذا فعلت الأمة بهذا النهي ؟! انتهكته وبنت المساجد علي القبور ، وتتبناها الدولة رسميًا ، ما الذي يصنعه الله في الكون إن اتخذت أربابًا صغارًا وآلهة صغارًا من دونه ؟! صححوا توحيدكم فإن الله - تبارك وتعالي - يأبي قبول الشرك " أنا أغني الأغنياء عن الشرك ، من أشرك بي شيئًا وكلته وشريكه " يقول الشيخ أحمد حسن الباقوري: وهذا رجل كان وزير الأوقاف في الخمسينات والستينات وكان من مآثره - رحمه الله - أنه كان يحمل علي هذه المساجد التي فيها القبور فلفت نظره أن الذاهب إلي الصعيد أو الذي يسلك طريق مصر الصحراوي كان يجد بعض القباب فكانوا يتعجبون ، لماذا يبني قبة في مكان ليس فيه أحد ؟ تجد أحيانًا بعض القباب في مكان كفر لا يسكنه أحد ، فلماذا يودع هذا الإنسان في هذا المكان بالذات ؟ فحمله ذلك علي أنه هدم كثير من القباب ، وهذه رواية عنه, فيقول: فوجدنا تحت أحد القباب جمجمة حمار هذا الحمار كان ولياً من الأولياء يومًا ما وكم من النذور أعطيت له ؟ ، وكم من الذين مرغوا وجوههم علي عتبة هذا الحمار يطلبون المدد ، وهذا مسجد العوَّام في مرسي مطروح الآن مسجد سيدي العوَّام ، أتدرون من هذا العوَّام ؟ رجل يوناني كافر من الضفادع البشرية غاص وهو يبحث عن الإسفنج فجاء عائمًا علي سطح الماء فأخذه بعض الدجالين سيدي العائم وصل ، وبني له قبة مسجد وأكبر مسجد في مرسي مطروح الآن . كافر تحت قبة في مسجد يطلبون منه الحوائج ، وكثير من المغفلين يضعون في صندوق النذور هذه الأموال التي تذهب إلي غير مستحقيها . أحياؤنا لا يرزقون بدرهم وبألف ألف يرزق الأموات يترك الحي يموت مريض لا يجد ثمن الدواء ، جائع لا يجد ثمن الغذاء ، عاري لا يجد ثمن الكساء ,ويذهب للقباب فيضع الأموال الطائلة كان ستة وسبعين مسجد السيد البدوي ، الحرَّاس نادوا أن الحصيلة ثلاثة وعشرين ألف جنية هذا المسجد يحصل الملايين في السنة الواحدة ، الذين يذهبون فيضعون أموالهم مأذورين غير مأجورين ، أعطوا هذا للحي الذي يموت وهو علي قيد الحياة ، ولا تعطيه لميت لا يحل لأحد أن يقول: بناء المساجد علي القبور جائز ، لأن الله تعالي قال علي لسان هؤلاء القوم: ﴿ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا ﴾ . الخلاصة: أن شرع من قبلنا لا يجوز أن يحتج به إلا إن كان شرعنا موافقًا له كمسألة القرعة كانت في شرع من قبلنا ، وجاء النبي - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَسَلَّم - فأقرها واقترع فدل ذلك علي مشروعيتها في ديننا ، . أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم , الحمد لله رب العالمين له الحمد الحسن والثناء الجميل ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله - صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَآَلِه وَصَحْبِه وَسَلَّم -.