تصنيفات المقال:
الحديث وعلومه
تاريخ النشر: 21 رجب 1436هـ الموافق 9 مايو 2015م
عدد الزيارات: 5096
بدأ الإسلام غريبًا في أهل الجاهلية، والذي يتأمل غربة الأصحاب الأوائل يرى أن غربتنا في هذه الأزمان هي ذات الغربة ، ولكن هناك فرق بين الغرباء ، فالغرباء الأوائل كانوا يستعلون بإيمانهم ؛ لذلك لم يبالوا بالعذاب ، فلم يفتنهم ، وكانوا يحتسبون العذاب في الله - تبارك وتعالى - ، بخلاف المتأخرين من الغرباء ، فإن إيمانهم هش ضعيف ، لذا فإنهم يفتتنون عندما ينزل بهم العذاب ، وتسود وجوههم كما يسود المعدن غير الأصيل إذا تعرض للنار.
كان أهل الإسلام بالنسبة لأهل الأديان غرباء، واليوم صار أهل السنة بالنسبة لأهل البدعة غرباء، لم يكن في مكة إلا كفر وإسلام، ولم يكن النفاق قد ظهر بعد ، متى تعرف أن الإسلام صار له شوكة ، وأنه ساد ؟ إذا رأيت النفاق فاعلم أن للإسلام عزة ، لكن إذا رأيت الكفر فاعلم أن الإسلام ضائع ؛ لأن الكفر لا يظهر ولا يشرئب عنقه إلا في غياب الإسلام والسلطان الشرعي ، فإذا عز الإسلام ظهر النفاق.
غربة أهل الدين في هذه الأزمنة المتأخرة، مع عدم وجود النصير، ومع قلة الأتباع، ومع قلة الصبر؛ يجعل الغربة مضاعفة. « الذين يُصلحون إذا فسد الناس ») أو(« الذين يَصلحون إذا فسد الناس » يدل على انتشار الفساد العريض ، مع قلة الداعين إلى السنة ، حتى يصير الواحد منهم أغرب من فرس دهماء في غلس ، أرأيت إلى الفرس السوداء شديدة السواد إذا وقفت في ظلمة الليل البهيم أتستطيع أن تبصرها ؟ ﴿ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا ﴾(النور:40).
إن الغرباء الأولين كانوا يستعلون بإيمانهم لذلك كانوا يستهونون العذاب ، تخلل الإيمان ووصل إلى شغاف قلوبهم ، وما تساوي الدنيا إذا خرجت روحك إلى النعيم ، كأنها حبيسة في زجاجة ، فإذا خرجت من عنقها خرجت إلى الفضاء الواسع ، فالدنيا سجن المؤمن ، إذا خرج منها إلى اللذة والنعيم المقيم كان ذلك أعز أمانيه ، لذلك كان يتمنى أن يخرج من الدنيا ، وكما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحديث الصحيح « اعلموا أنكم لا تلاقون ربكم إلا إذا متم » ، إذًا فالموت عند هؤلاء أمنية ؛ لأنه لا يستطيع أن يلقى الله إلا إذا مات .
لماذا لا يشعر المسلمون الآن بلذة الدين ؟ لأنه لا يراه حسًا ، لا يراه حقيقة واقعة ، لا يمارسه ، إنما هو نصوص نظرية ، نصوص صارت أثرًا .
هذا أوان الغربة الثانية إن الغريب له استـكانة مذنب وخضوع ذي دين وذل مريب يقف كأنه مذنب بلا ذنب ، ويضع رأسه في الأرض ، وحقه أن يعز ، وحقه أن يرفع رأسه ، لكن لضعف تربيته وتنشئته لا يستطيع أن يستعلي بالإيمان ، بين قوم تسودهم بعض صفات الجاهلية .
إن غربة الإسلام غربة خاصة ، والسني في هذه الأيام غريب في أهله ، بل يقول بعض الأبناء وكثيرًا ما شكي إلينا ذلك ، ونسأل في مناسبات متعددة: أبي حلف عليّ: إنك إذا صليت في مسجد سني فأمك طالق ، ماذا أفعل ؟ ، أبي حلف عليّ: إذا أطلقت لحيتك فأمك طالق ، أو يخرجني من البيت. ، ماذا أفعل ؟ إن التطرف في الدين خير من التطرف في الدنيا ، مع أن كلاهما مذموم ، لكن الذي يتطرف في الدين أبعد عن الانحراف والفساد العريض من الذي يتطرف في الدنيا ، فإذا خفت على ولدك أن يدمن (الهيروين) فدعه في أحضان أهل السنة والجماعة.
أيها الغرباء في الغربة الثانية ! طوبى لكم ، طوبى لكم وحسن مآب ، طوبى للغرباء « الذين يصلحون إذا فسد الناس » لا تيئس من روح الله ، ولا يحملنك كثرة المخالفين على اليأس من إيصال الحق إلى القلة ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - وأتباعه كانوا يدعون الواحد بعد الواحد ، لكن الواحد منهم كان يزن أمة ونحن غثاء كغثاء السيل ، « يوشك أن تتداعى عليكم الأمم كما تتداعى الأكلة على قصعتها » ، قالوا: أومن قلة نحن يومئذٍ يا رسول الله ؟ قال: « لا أنتم يومئذ كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله المهابة من قلوب عدوكم ، وليقذفن في قلوبكم الوهن » ، قالوا: وما الوهن يا رسول الله ؟ قال:« حب الدنيا، وكراهية الموت ».
إننا نعيش الآن غربة شديدة محكمة، والذي ضاعف منها ضعفنا أيها الغرباء، فنحن ضعاف لا نتحمل العذاب والفتن، لاسيما مع وجود الرءوس الجهلة الذين يفتون الناس بغير علم ، ويسمع لهم ، ويمكنون من أجهزة الإعلام.،.
الذي يفرق بين الغرباء الأولين وبيننا في الغربة الثانية أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مصدر الضوء بالنسبة للغرباء. فبقدر قربك من مصدر الضوء - صلى الله عليه وآله وسلم - بما أتانا من قرآن وسنة؛ بقدر ما يكون إحساسك بنور الإسلام وبهائه ولامع نوره، وبقدر بعدك عنه وانسلاخك منه؛ بقدر إيغالك في الظلام،.
لا تظن أن ذلك الظلام الدامس الذي يشكو منه الغرباء في المرحلة الثانية يدوم ، لن يدوم إن شاء الله مع مراجعة الضوء الأول . إن ظلام الليل كلما اشتد آذن بمولد الفجر ، ولذلك ترى أحلك فترات الليل سوادًا وظلامًا هي التي تسبق نور الفجر ، فإذا راجعت الضياء تخلصت من هذه الظلمات التي يعبر الله - تبارك وتعالى - عنها بلفظ الجمع في القرآن الكريم ، ويعبر عن لفظ النور بالإفراد ﴿ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾(البقرة:257).
اللهم ياحى ياقيوم اشف شيخنا الحويني شفاءا لا يغادر سقما