تصنيفات المقال:
العقيدة الإسلامية
تاريخ النشر: 9 رجب 1436هـ الموافق 27 أبريل 2015م
عدد الزيارات: 4087
ما معنى أن تشهد؟ قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ) [السجدة:6]، إذاً: الغيب ضد الشهادة، (فالغيب )هو ما غاب عنك، (والشهادة )ما ترى بعينك، (فالشهادة هنا: هي الرؤيا)، أو( كأنها الرؤيا، ) وهذا يرسلنا مباشرةً إلى آخر الحديث عندما قال له أخبرني عن الإحسان، قال: (أن تعبد الله كأنك تراه ..).
ولما جاء صحابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أوصني يا رسول الله! قال: أوصيك أن تستحيي من الله كما تستحيي من رجلٍ من صالحي قومك)، فهل يستطيع رجلٌ منا أن يقوم قلبه على مشهدٍ من مشاهد العصيان ويراه أحد؟ لا يستطيع ولا يقوى قلب إنسان أن يقوم بالمعصية وأحد يراه، ولذلك يحرز نفسه إذا أراد أن يعصي، فتراه يغلق الباب والنافذة ويأمن نفسه، ويتعرف على مواعيد خروج ودخول الآخرين، ثم يقوم بعمل هذه المعصية.
(أن تعبد الله كأنك تراه): يعني: إذا اعتقدت أن الله يراك، وقام قلبك لهذا المشهد، فلا يمكن أن يقوى قلبك على العصيان ألبتة، فليس معنى أن تشهد أن لا إله إلا الله أن الأمر انتهى، ليس هذا معنى الشهادة، فالكلمة أنت قلتها، ولكن الشهادة يشترط فيها العلم والصدق، قال تعالى: (إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ) [الزخرف:86]، إذاً: لابد أن تشهد بحقٍ وبعلم.
إذاً: تحقيق معنى الشهادة: أن تعتقد أن الله تبارك وتعالى يراك.يعني مثلاً: هناك بعض الإخوة يمكن أن يصلي الفجر وأخذ شكل الالتزام الظاهر، لكن عنده بلايا قديمة لم يستطع أن يتخلص منها حتى الآن، فهو قد قلل من الذنب، كان يفعله جهاراً فأصبح يفعله سراً، والتدخين مثلاً، بعض الناس مبتلون بالتدخين، فتنظر إليه تجده متسنناً، وتراه لا يترك صلاة في المسجد، وتراه رجلاً منافحاً عن السنة، ونحن لا نقول: إنه بهذه المعصية لا يحب الله ورسوله؛ فإن محبة الله ورسوله قد تجتمع مع العصيان، فقد جاء في البخاري وغيره: (أن رجلاً جيء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد شرب الخمر، فقال: فمنا الضارب بنعله، ومنا الضارب بثوبه، ومنا الضارب بالعصا، فقال له رجلٌ: لعنك الله! فقال: لا تعن الشيطان على أخيك).
وفي رواية خارج الصحيحين قال: (لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله)، وحديث آخر في الصحيح أيضاً: أنه لما لمزه شخص وقال إنه من المنافقين قال: (إنه يحب الله ورسوله)، فالإنسان قد يحب الله ورسوله وتجتمع فيه شعبة من شعب المعاصي، أي: أنه يفعل معصية وهو يحب الله ورسوله، لكنه حبٌ غير تام، إذ لو أحب الله عز وجل لاستحيا أن يبارز الله بالعصيان، ثم قارف العصيان من خلف الجدار حياء من الناس.
فكلمة (أشهد أن لا إله إلا الله) ينبغي أن يقوم قلبك بمعنى الشهادة فيها، كأن الله يراك، فإذا وصلت إلى هذا المعنى فقد حققت معنى (أشهد أن لا إله إلا الله).(وأشهد أن محمداً رسول الله) يعني أن تشهد أيضاً أن محمداً رسول الله، ونفس المعنى أن تشهد كل حديث يأتيك عن النبي عليه الصلاة والسلام، وتعتبر أنه هو الذي يأمرك وأنت واقف أمامه تشهده وتنظر إليه.
مثلاً أنا رجل ثقة ولم تجربوا علي كذباً، وقلت لكم -وأنا أعلم الصحيح من الضعيف- صح عن النبي صلى الله عليه وسلم، ونقلت حديثاً لم أصححه أنا فحسب، وإنما أجمعت الأمة على صحته، فما أنا إلا مبلغ، فقلت لك: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا وكذا، لماذا لا تبادر إلى فعله؟ نحن لن نحقق معنى الشهادة إلا بالاتباع.
ما هو الفرق بين أن يقول لك النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه: افعل! وبين أن يقول لك أحد أصحابه أو أتباعه: افعل؟! وهل تواجده عليه الصلاة والسلام شرطٌ في البلاغ؟
فلقد كان يرسل أصحابه إلى الآفاق بدعوة الإسلام، وكان يقاتل الذين لا يستجيبون لدعوة الإسلام على لسان فردٍ من أصحابه، وكان يصدق صاحبه فيما قال، فإذا قال: إن هؤلاء ردوا الإسلام، أرسل لهم بدفع الجزية، فإذا رجع صاحبه وقال: أبوا أن يدفعوا الجزية جهز الجيش وذهب ليغزوهم بخبر واحد، ولا نعلم أن واحداً من الذين أرسل إليهم في الآفاق قال لأحد أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام: يشترط أن يأتينا بنفسه، ما قال أحد هذا الكلام، إنما تقوم الحجة بالمبلغ.
وقد نقل ابن القيم رحمه الله: إجماع الأمة على أن الرد إلى النبي صلى الله عليه وسلم في حياته إليه وبعد مماته إلى سنته:ولا يعلم سنته إلا العلماء، فإذا قال العالم: افعل كذا، فما الذي يصدك عن الاتباع؟!فلو أني قلت لك: -وهذا المثال دائماً ما أطرحه، وطرحته في هذا المسجد أكثر من مرة، وأطرحه لفائدته، فكل مرة أطرحه أجد له نتيجة، فلعلي عندما أطرحه الآن يأتي بنتيجة أيضاً مع الذين قصروا في الأيام الماضية- لا شك أنه قد يوجد بيننا من ابتلي بلبس خاتم من ذهب، أو دبلة الذهب، فالنبي عليه الصلاة والسلام كما في الصحيح: رأى رجلاً يلبس خاتماً من ذهب، فنزعه من يده نزعاً شديداً وطرحه، وقال: (يعمد أحدكم إلى جمرةٍ من نار فيضعها في يده)، فلما قام الرجل، قال له بعض الناس: خذ خاتمك انتفع به، قال: ما كنت لآخذه وقد طرحه).وهو إن أخذه لن يلبسه ولكن سينتفع به، لكنه عظم الأمر، واستعظم كيف يلقي النبي صلى الله عليه وسلم الخاتم على الأرض ثم يتناوله.
كما قيل لـابن عمر عندما سئل: (أيؤكل الغراب؟ فقال: من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟)، وانظر هنا إلى تعظيم الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم! والسبب الاتباع، مع أن التسمية قد لا يؤخذ منها تحريم، لكن تسميته بالفاسق وقعها على الأذن ثقيل، والرسول عليه الصلاة والسلام علّم الصحابة فهم واستنباط الأحكام.وهكذا المسلم الحق يكون على أعلى الدرجات من الذوق، فالذي درس الذوق دراسة حقيقية، يصبح عنده ملكة وسجية.
فالمتكلم أحياناً لا يريد شيئاً لكن يصل إلى غرس بشاعة اللفظ في أذن المستمع.
.فالصحابة ينفعلون لهذه المسألة، فيقولون: (من يأكل الغراب وقد سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاسقاً؟!) فلو سألت أي مبتلى بهذا البلاء العظيم وقلت له: توهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن موجود، وهو الذي يكلمك قائلاً لك: يا فلان لم تلبس خاتم الذهب؟ انزعه! هل ستنزعه أم لا؟ وأنا لا أظن أن هناك شخصاً سيقول: لا، فلماذا يماطلون معنا؟ لماذا يعذبوننا ويتعبوننا؟ ونأتي بالكلام المنسق والمنظم والمنتقى والأشعار وغيرها.. لماذا هذا كله؟.
لأن الشخص المخاطب لم يحقق معنى: أشهد أن محمداً رسول الله، وأشهد من الشهادة: يعني كأنك تراه! فإذا وصلك أمره عليه الصلاة والسلام فتخيل أنه هو الذي يحدثك؛ لأن هذا يعينك على أن تعظم أمره، فإذا قلنا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا ... فيجب أن يُعمل به، والصحابة رضي الله عنهم ضربوا أروع الأمثلة في الاتباع؛ بسبب الحب، ونحن دائماً ندندن حول الحب، وأرجو من الإخوة أن يرجعوا مرةً أخرى إلى ما قلناه قبل ذلك عن الانتماء، وأن الانتماء هو ذلك الحب، وتكلمنا عن الحب في عدة خطب؛ لأن الحب هو الباعث على الفعل، إذا كنت محباً فسوف تفعل.
اللهم ارزقنا حبك وحب من يحبك وحب عمل يقربنا إلى حبك.