تصنيفات المقال:
العقيدة الإسلامية
تاريخ النشر: 29 جمادى الآخرة 1436هـ الموافق 18 أبريل 2015م
عدد الزيارات: 2300
الغلو
من القواعد المتفق عليها عند جميع أهل الملل: أن الله تبارك وتعالى إنما يشرع الشيء لمصلحة العباد؛ ولذلك جاءت الشرائع كلها لتحصيل المصالح وتكثيرها، وتقليل المفاسد وإعدامها ما أمكن، ولا تتأتى مصالح العباد إلا بأن يكون التشريع مشتملاً لأضعفهم، لا تتم المصلحة إلا بمراعاة الأضعف، لذلك النبي صلى الله عليه وسلم لما قال له عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: (يا رسول الله! اجعلني إمام قومي -إمامهم في الصلاة- قال: اذهب فأنت إمامهم واقتد بأضعفهم) لأن مراعاة الأضعف لا يضر القوي، ومراعاة القوي تضر الضعيف، فتحصيل المصلحة إنما تكون بمراعاة الأضعف؛ لأن القوي لا يؤثر عليه ذلك؛ إذ يستطيع تحصيل ما يحصله الضعيف، إنما لو كان الشرع على قدر القوي لضر ذلك الضعيف.لذلك كان من سمة ديننا اليسر الذي يستطيعه الأضعف، فقال تبارك وتعالى: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78] و(من) هنا للتبعيض، أي: لا يوجد بعض الحرج؛ لذلك إذا نظرت إلى الأوامر والنواهي ترى هذه الرحمة وهذا اليسر.
كل ما نهاك الله عنه ففي إمكانك أن تنتهي عنه، وكل ما أمرك به ليس في إمكان الكل أن يأتمر به: لذلك الله يعذب الذي يفعل ما نهي عنه، ولو كان النهي ليس في طاقة العبد لما عذبه، إنما يعذبه على ما في مكنته وقد نهاه عنه، فجميع المناهي بإمكان العبد أن يتركها، أما الأوامر فهي كثيرة ومتنوعة، كل ما أوجبه الله على العبد بإمكانه أن يفعله، وكل ما ندبه إليه واستحبه له لا يفعله إلا قلائل.
فكل ما أوجبه الله أمر إيجاب على العبد، بمعنى أنه يعذب إذا لم يفعل، ففي إمكان العبد أن يفعله: إذ لا يتصور أن يأمره بما لا يطيق ثم يعذبه، فإن التكليف بما لا يطاق ليس من مذهب أهل السنة والجماعة، فإن الله تبارك وتعالى لا يأمر إلا بما في إمكان العبد أن يفعله، ولذلك كان فعل هذا النوع من الأوامر من أحب ما يتقرب إلى الله به، كما قال تبارك وتعالى في الحديث القدسي الذي رواه البخاري : (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه).
إذاً: أفضل شيء تتقرب به إلى الله أن تفعل ما أمرت به على سبيل الفرض: إذاً ما أمرت به على سبيل الفرض والإيجاب الذي لا خيار لك في الترك، إنما لابد لك من الفعل، ففي إمكانك أن تفعل؛ لذلك يعذبك على الترك.
والمناهي التي نهي العبد عنها نهي تحريم إذا فعلها العبد فإن الله يعذبه.. لماذا؟ لأن بإمكانه أن يمتنع أما المستحبات التي لا آخر لها فإن العبد يثاب بقدر ما يفعل، ولا يؤاخذ مؤاخذة تقصيره في الفرض، وذلك ظاهر في قوله تبارك وتعالى في الحديث القدسي في تمامه: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) فهذا الحب هل هو وليد فعل الفرائض أم وليد فعل النوافل؟ في الأول قال: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه) هذا هو الفرض الذي يجب أن يفعله، ثم قال تبارك وتعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه) إذاً هذا الحب وليد النافلة، هذا الحب ترتب على فعل النافلة؛ لأنه لا يتصور أن يكون هناك رجل مقصر في الفرض وهو مجد في النافلة، وإذا أردت أن تعلم مدى التزام العبد فانظر إليه في النوافل، إن رأيته على قدم وساق، فاعلم أنه يفعل الفرض كما أمر، فلا يتصور أن يتصدق إنسان وهو مدين، مدين ويتصدق؟! هذا غير متصور؛ لذلك كان تأدية النافلة علامة الالتزام، وهي التي استجلبت للعبد حب الله تبارك وتعالى.
يبلغ العبد رضوان الله تبارك وتعالى بفعل النافلة: ولأن النافلة واسعة جداً، ما يبحر فيها إلا قلائل؛ ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: (ما أمرتكم به من شيء فأتوا منه ما استطعتم، وما نهيتكم عن شيء فانتهوا) لم يقل: فانتهوا ما استطعتم؛ لأن النهي في مكنة العبد أن يفعله، لكنه لا يستطيع أن يفعل كل ما أمر به، ولذلك في باب الأوامر قال: (فأتوا منه ما استطعتم) فهذا يدل على أن بعض الأوامر لا يستطيع الإنسان في كل أوقاته أن يفعلها، وهي الأوامر التي أمرت بها على سبيل الندب والاستحباب، فشريعتنا كلها سمحة، أما التعقيد الذي يعانيه بعض الناس فإنما هو بسبب انحرافهم، وإلا فاليسر كل اليسر في إتباع أمر النبي عليه الصلاة والسلام، هذا هو اليسر، إذا أردت اليسر فاتبع والزم.