دعني أيها الأخ الكريم أمهد لك الحديث عن هذه الحديقة بهذه الواقعة التي رواها لي أحد المشايخ الفضلاء وهو (الشيخ إبراهيم بن صالح ) : فقد تحرك الشاب الذي يبلغ عمره ثماني عشرة سنة تقريبًا بسيارته منفردًا من الأحساء متجهًا إلى مدينة الدمام، وقد كان مصابًا بالربو المزمن، وما أن وصل إلى أقربائه هناك إلا أحس بحشرجة في صدره، هي علامات يعرفها المصابون بالربو على أنها بداية لأزمة خطيرة تحتاج إلى تصرف سريع وحكيم، والتفاف حول المصاب، ومراعاة دقيقة لصحته .
ولأن هذا الشاب يدرك أنه قد يصاب بالإغماء أو السقوط لفترة ما، خشي على نفسه من أن يقع أمام من ذهب لزيارتهم، فيصاب بالقلق أو الإحراج النفسي، فعزم على العودة إلى الأحساء فور وصوله، وأحس من حوله بضيق في صدره، وضعف في تنفسه، فعزموا عليه ألا يعود في مثل هذه الحال، وأصروا عليه بوجوه مختلفة، فأبى ذلك كله، فركب سيارته عائدًا إلى بلده، تمر الدقائق عليه ثقيلة وئيدة، كل دقيقة منها تحبس جزءًا من نفسه، يتلفت حوله فلا يرى أبًا حانيًا يشفق عليه بنجدة، ولا أمًا تظلله برحمة، ولا أخًا يسنده بإسعاف، ويحدق أمامه فلا يبصر إلا امتداد الطريق الذي لم تعد قواه قادرة على إنهائه، فلما انتصف الطريق اشتدَّ به الكرب، وفقد توازنه، وزاغت عيناه، وأحس بقرب أجله، وشعر بأن كل شيء انتهى، أوقف سيارته تحت جسر قريب، لم يكن يملك قوة تعينه على طلب النجدة من المارِّين على هذا الطريق، فقد الأمل في كل شيء، فتوجَّه إلى الله تعالى، يسلم إليه أمانة الروح، فريدًا وحيدًا على سفر، لم يحسن أن يفعل شيئًا سوى أنه خرج من سيارته بلا شعور، فتمدد على مقدمتها، علَّ الله تعالى أن يرحم ضعفه، وينظر إلى غربته بعين الرأفة، هنا وفي هذه اللحظة غاب عن حاله، وغدا كمغمًى عليه لا يدري ماذا يجري له، كل الذي يعلمه أنه أوشك على مفارقة الحياة، وتوديع زينتها , غير أن رحمة الله كانت تترقبه، كيف وهو الرحيم الغفور، الودود الحليم سبحانه :
وإذا دجى ليل الخطوب سبلُ الخلاص وخاب فيها
وأيست من وجه النجاة فما لها سببٌ ولا يدنو لها متناول
يأتيك من ألطافه الفرج الذي لم تحتسبه وأنت عنه غافل
ويمرُّ أحد المسافرين ليرى ذلك الشاب الغض ممددًا على سيارته، غائبًا عن شعوره، لا يرى فيه أثرًا لحادث أو سببًا مباشرًا لهذه الحال، لم يتح لنفسه كثيرًا من التساؤلات؛ بل قطعها بإغاثة هذا المسكين، فما أن أمسكه بيده، حتى أحس بحركة بطيئة في يدي هذا الشاب، يشير بيديه إلى أنفه وفمه، مبينًا له بذلك أنه لم يعد له نفس يعيش به، فرح صانع المعروف بحياته، وأحس بأن الله أرسله إليه لينقذه على يده، تحرك بسرعة لأخذه إلى طبيب حاذق في شأن أمراض الصدر بمدينة قريبة؛ فما أن وصل إلى هناك قام الطبيب بالأمانة الملقاة على عاتقه خير قيام، وصانع المعروف واقف على رأسه يرقب ذلك النفس المتقطع، والصدر المتحشرج، نسي سفره الذي خرج من أجله، وترك الدنيا من ورائه، وأقبل على إنقاذ روح كادت تفارق صاحبها، ليعيده بأمر الله إليه، لا لمعرفة سابقة، ولا لمصلحة دنيوية لاحقة، إنما حب صنيع المعروف الذي أكرمه الله به، وما زال كذلك يرقب الشاب بعينيه، ويحيطه برعايته، ويلهج لسانه بالدعاء له أن يمن الله عليه بالشفاء، ويعيده إلى الحياة .
وشيئًا فشيئًا حتى سمع الأنفاس تتراجع، والأزمة تخف، والأطراف تتحرك، وبدأ نور العينين يخفق ببصيص من الحياة، وصانع المعروف يحدق في وجه الطبيب يبحث عن الأمل في وجهه، يتلمس ابتسامة النجاة على ثغره، لحظات ولحظات، ورحمة ربك قريب من المحسنين، بدأت الحياة تَدُبُّ في أوصال ذلك الشاب، وبدأت أسارير وجه الطبيب تتهلل بشرًا، وتبشر بالحياة من جديد، حينها تعرّف صانع المعروف على هاتف منزل أهل المصاب من المصاب نفسه، واختفى من المستشفى حتى لا يتعرف عليه أحد، وذهب ليتم معروفه بنجاح وحكمة ليتصل على أهل المصاب، فأخبرهم خبر ابنهم ومكانه...ولكن : من أنت أيها المتحدث ؟ من أنت وفقك الله ؟ من أنت يا صانع المعروف ؟! أخبرنا باسمك، دعنا نحدّث الناس بشهامتك، دعنا نصف للناس معروفك، دعنا نرد لك شيئًا من جميلك، وأي جميل يمكن أن يُرد لمثلك وقد كنت سببًا في رد الحياة إلى ابننا بإذن ربه سبحانه أما لنا نصيب من إكرامك والإحسان إليك؟ فاعل خير ... فقط ... كلمتان أجاب بهما صانع المعروف محتسبًا أجره على الله الرحمن الرحيم، ألا بوركت يا صاحب الخير كفاك، وسدَّدت خطاك، وحفظك الله من كل سوء ورعاك، وبارك الله لك في صحتك، وحياتك، وذريتك، وجعل الجنة مأوانا ومأواك .
قال لي الشيخ : ولا زالت الأكفُّ الضَّارعة تُرْفَعُ إلى الله تعالى بالدعاء لصانع المعروف؛ هذا كلما سنحت فرصةٌ لتذكر معروفه .
حاجة قضاها لأخيه، وأي حاجة !! إنه نفسه التي بين جوانحه؛ فأي سعادة غامرة سيسعد بها هذا الشهم بعد إنقاذه لأخيه، وأي فلاح سلك طريقه بإسعافه؛ إنه الفلاح الذي قال الله فيه : "وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ " [الحج : 77] .
أخي الموفَّق : لا تتردد أن تقضي حاجةً لأخيك، ولو على حساب وقتك أو جهدك، وثق في خالقك بأنه سيكون في حاجتك يخفف عنك همك، ويرفع عنك غمَّك، ويبارك لك في رزقك؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته» [رواه البخاري] .
ويقول صلى الله عليه وسلم كذلك : «صنائع المعروف تقي مصارع السوء»[رواه الطبراني وهو حديث حسن].
ويقول صلى الله عليه وسلم كذلك : «وتعين الرجل في دابته فتحمله عليها أو ترفع له عليها متاعه صدقة» [متفق عليه] .
ولعلك سمعت عن قصة البطل وكيل الرقيب : جمهور ابن عبد الله الغامدي - رحمه الله - الذي أسعده الله بإنقاذ أب وطفليه من الغرق في شاطئ نصف القمر؛ وذلك حينما تلقَّى نداءات الاستغاثة وهو في طريقه إلى بيت الله ليؤدي صلاة العصر، فلم يتأخر لحظة في استجابته لنداءات الضمير وصوت المعروف، فأخذ يشق طريقه بين أمواج البحر، محاولاً إنقاذ أرواح الثلاثة الذين شارفوا على الغرق، فتمكَّن أوَّلاً من إنقاذ والدهم وأوصله إلى نقطة قريبة ليتولى زميله إيصاله إلى شاطئ الأمان، وعاد من فوره في همة متناهية، وتضحية منقطعة النضير إلى الطفلين ليمدَّ لهما يداه الموفقتين، فتلقفهما بشفقته وحنا عليهم بأبوته، مرخصًا في إنقاذهما روحه وحياته، فأكرمه الله بإنقاذهما كذلك؛ حينها لم تسعفه قوتُه أن يصل إلى ساحل السلامة؛ حيث شعر بالإرهاق، وفقد السيطرة على نفسه بين دوامة البحر، فجَرَّتْه أمواجُها إلى داخله، وكلَّت قواه، ورويدًا رويدًا حتى خفَّت ضياء الحياة بين عينيه فكانت الشهادة في سبيل الله الوسام الذي ينتظره، كذلك نحسبه - والله حسيبه؛ فاختفى هذا البطل عن الأنظار، وغرق في لجة البحر، بعد أن نَحَتَ ببطولته أروعَ لوحات الفداء والإيثار... حقًا إنها نماذج وبطولات فريدة في زماننا هذا، ولكن لا أملك إلا أن أقول : رحمك الله يا جمهور رحمة واسعة، وأسكنك فسيح جناته، وأنزلك منازل الشهداء والصالحين؛ إنه بَرٌّ رؤوفٌ رحيم .
حاجة أخيك : هَمٌّ تخفِّفه عنه، ونجدة تسعفه بها، ودين تقضيه عنه، ومال تقرضه إياه، ونقيصة تدفعها عن عرضه، ورفقة تؤنسه بها، ودعاء له تخفيه عنه، وكل عون في بر، وكل مساعدة في خير، صنائع تنال بها محبة الله، وتفوز من أجلها برضاه .