الستر نوعان: ستر حسي، وستر معنوي :
أما الستر المعنوي فهو أن تجد المسلم قد اقترف الذنب أو ارتكب الفاحشة فلا تفضحه؛ بل تنهاه عن معصيته، وتلين له في نصيحة ملؤها الرفق والشفقة، وتستر عليه فلا تبوح بخطيئته، ولا تعريه من ستر الله عليه .
لقد اعترف ماعز الأسلمي رضي الله عنه بلسانه بين يدي الرسول صلى الله عليه وسلم بالوقوع في فاحشة الزنا، ومع هذا فإن النبي صلى الله عليه وسلم يحاول معه أن يستر على نفسه، وأن يتوب بينه وبين الله، فأخذ يقول له : «ويحك، ارجع فاستغفر وتب إليه». [رواه مسلم]، فيرجع ماعز غير بعيد، ثم يعود فيقول للنبي صلى الله عليه وسلم : طهرني، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول له مثل ما قال، حتى تكرر منه هذا الأمر ثلاث مرات، فلما استيقن النبي صلى الله عليه وسلم من وقوعه في هذه الفاحشة، وأنه يريد تطهير نفسه من درنها، ويرجو أن يلقى الله وليس عليه وزرها، أمر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة أن يقيموا عليه الحد، فذهبوا به فرجموه، فلما أذلقته الحجارة، هرب من مكانه من شدتها، فأدركه الصحابة بالحجارة حتى مات، وفي رواية لأبي داود : لما علم النبي صلى الله عليه وسلم بهروبه قال لهم : «هلا تركتموه؛ لعله أن يتوب فيتوب الله عليه»، ثم قال عنه : «إنه الآن في أنهار الجنة ينغمس فيها» .
فوا عجبًا ممن يتربصون لأي فاحشة تقع، أو منكر يحصل؛ لا ليخبروا الجهة المسؤولة عن ذلك فتنكره بالوسائل الشرعية؛ بل ليطيروا بخبره بين الناس، وينشرونه على الشبكات المعلوماتية وغيرها؛ إنها شهوة نقل الخبر التي عمَّت وطمَّت من غير سلوكٍ لوسائل النقل الصحيحة من التثبت والتأكد والستر والأدب، فأين هؤلاء من أسس النصح الشرعي ؟! وأين هم من قول الله تعالى : " إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آَمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُون "[النور: 19] .
وَلْيَخَفْ هؤلاء من الفضيحة على أنفسهم إذا لم يتركوا تَتَبُّعَ عورات الناس؛ فإن أبا برزة الأسلميَّ رضي الله عنه قال : نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق، فقال : «يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان قلبه، لا تغتابوا المسلمين ولا تتبَّعوا عوراتهم؛ فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته حتى يفضحه في بيته» [رواه أحمد، وهو صحيح لغيره، وإسناده حسن] .
وأما الستر الحسيُّ فهو أن تحسن إلى عارٍ من الثياب فتكسوه عن أعين الناس؛ فوالله إن هذا لمن هدي الحبيب صلى الله عليه وسلم، ولقد جمعت قصة ماعز الأسلمي رضي الله عنه هذين السترين؛ فقد جاء في رواية لأبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم رغب رجلاً يقال له هزّال بستر ماعز فقال له: «لو سترتَه بثوبك لكان خيرًا لك» [رواه أبو داود] .
فتأمل يا رعاك الله كيف يحرص النبي صلى الله عليه وسلم أن يستر على المسلمين عوراتهم حسًّا ومعنى، أحياءً وأمواتًا .
ولتصغ أيُّها الموفَّق لحديثٍ دار بين رجلين من سلف الأمة يتذاكرون فيه هدي المصطفى عليه الصلاة والسلام في ستره للمسلمين؛ فها هو ذا عبد الله الهوزني يقول : لقيت بلالاً مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بحلب، فقلت : يا بلال، حدِّثني كيف كانت نفقةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال: «ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي ذلك منه منذ بعثه الله إلى أن توفي، وكان إذا أتاه الإنسان مسلمًا فرآه عاريًا يأمرني فأنطلق فأستقرض فأشتري له البردة فأكسوه وأطعمه، حتى اعترضني رجل من المشركين فقال : يا بلال، إن عندي سعة، فلا تستقرض من أحد إلا مني، ففعلت، فلما أن كان ذات يوم توضَّأتُ ثم قمتُ لأوذن بالصلاة، فإذا المشرك قد أقبل في عصابة من التجار، فلما أن رآني قال : يا حبشي , قلت : يا لَبَّاه , فتجهمني وقال لي قولاً غليظًا، وقال لي : أتدري كم بينك وبين الشهر ؟ قال : قلت قريب , قال : إنما بينك وبينه أربع فآخُذُك بالذي عليك فأَرُدُّك ترعى الغنم كما كنت قبل ذلك , فأخذ في نفسي ما يأخذ في أنفس الناس، حتى إذا صليت العتمة رجع رسول الله إلى أهله، فاستأذنت عليه، فأذن لي، فقلت : يا رسول الله، بأبي أنت وأمي؛ إن المشرك الذي كنت أتديَّن منه قال لي كذا وكذا، وليس عندك ما تقضي عني ولا عندي، وهو فاضحي، فأذن لي أن آبق إلى بعض هؤلاء الأحياء الذين قد أسلموا حتى يرزق الله رسوله صلى الله عليه وسلم ما يقضي عنه، فخرجت حتى إذا أتيت منزلي فجعلت سيفي وجرابي ونعلي ومِجَنِّي عند رأسي، حتى إذا انشقَّ عمودُ الصبح الأول أردتُ أن أنطلق، فإذا إنسان يسعى يدعو : يا بلال، أجب رسول الله صلى الله عليه وسلم , فانطلقت حتى أتيته، فإذا أربع ركائب مناخات عليهن أحمالهن، فاستأذنت، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «أبشر؛ فقد جاءك الله بقضائك»، ثم قال: «ألم تر الركائب المناخات الأربع؟» فقلت: بلى، فقال: «إن لك رقابهن وما عليهن؛ فإن عليهن كسوة وطعامًا أهداهن إليَّ عظيم فَدَكَ فاقبضهن واقض دينك»... وفي الحديث أن بلالاً لما قضى دين رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبره بذلك، فكبَّر وحمد الله شفقًا من أن يدركه الموت عنده ذلك» [رواه أبو داود وصحَّحه الألبانيُّ] .
السَّترُ خُلُقٌ جميلٌ تجود به النفوس الكبيرة التي تنزه أرواحها من أن تملأ مجالسها بالكلام في أعراض الناس، وترفع أقلامها أن تسطر أخطاءهم، وتطهر أسماعها أن تصغي لعوارهم، ويا لروعة الستر الجميل؛ فإن فيه اعترافًا بفضل الله الذي سترنا بأجمل الثياب بعد أن ولدنا عراة : " يَا بَنِي آَدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآَتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ " [الأعراف: 26] .
وتكرَّم علينا فلم يفضحنا أمام خلقه بذنوبنا وتقصيرنا وقد رآنا ونحن نرتكبها، وهل هناك أعظم سترًا من أن يسترك الله في يوم تنكشف فيه السَّوءات، وتبدو فيه الذنوب؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله يدني المؤمن فيضع عليه كنفه ويستره، فيقول: أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ فيقول : نعم أي رب، حتى إذا قرره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه هلك، قال : سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيعطى كتاب حسناته، وأما الكافر والمنافقون فيقول الأشهاد : هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين» [رواه البخاري] .
فاسق – أيها الحبيب – حديقة الستر على المسلمين بماء الإخلاص لتحصد جناها الطيب؛ فإن النبيَّ صلى الله عليه وسلم يقول : «من ستر مسلمًا ستره الله في الدنيا والآخرة» [رواه مسلم] .
اللهم استرنا بسترك الجميل، وعفوك الكريم، يا رحيم يا حليم .