-(التواضع والحلم )
قال الله تعالى-: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا ﴾ إلى قوله .. ﴿ أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلامًا خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا﴾ الفرقان:63-76 .
في هذه الآيات الكريمة من خواتيم سورة الفرقان، يصف الله -عز وجل- أحوال عباده الذين شرفهم بنسبهم إليه،وعباد الرحمن هم العباد الذين شرفوا بالانتساب إلى الله ؛ فإذا كان هناك عبيد الشيطان والطواغيت ، وعبيد الشهوات ، فهؤلاء عبيد الله ، وانتسابهم إلى الله باسمه الرحمن إشعار بأنهم أهل لرحمة الله عز وجل ،وقبل هذه الآيات قوله تعالى (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تآمرنا وزادهم نفورا)الفرقان 60
فإذا كان هؤلاء يجهلون ماالرحمن ،فإن هناك أناسا يعرفون الرحمن ، ويقدرونه حق قدره ، ويؤدون له حقه ، فهم عباده الذين شرفوا بالانتساب إليه ؛ وها هي صفاتهم وخصالهم لمن أراد أن يلتحق بركبهم ، فقول الواحد منا أنا من عباد الرحمن دعوى تحتاج إلى برهان ، إلى أفعال إلى صفات نتحلى بها .
وهذه الصفات سوف نتناولها في سلسلة منبرية كل أسبوع إن شاء الله فاللهم يسر وأعن يا كريم.
1- التواضع والسكينة :
أول هذه الأوصاف أنهم يمشون على الأرض هونا ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ أي: بسكينة ووقار وتواضع وبغير تجبر ولا استكبار.
لكن لماذا جعلها الله أول صفة لعباده ؟
لأن المشية غالبا ما تعبر عن صاحبها ، عن شخصيته وما يستكن فيها من مشاعر وأخلاق ، فالرجل له مشية والمرأة لها مشية أخرى ، والمتكبرون لهم مشية ، والمؤمنون المتواضعون لهم مشية ، والصحيح السليم له مشية ، والمريض العليل له مشية .... وهكذا كل يمشي معبرا عما في ذاته .
فعباد الرحمن يمشون على الأرض هونا ، متواضعين هينين لينين ، بسكينة ووقار لا بتجبر واستكبار ، لا يستعلون على أحد ولا ينتفخون كأحد الذين يمشون فيقول: (يا أرض انهدي ماعليك قدي)
وقد نهانا الله عن هذه المشية فقال (ولا تمش في الأرض مرحا إنك لن تخرق الأرض ولن تبلغ الجبال طولا ) الإسراء 37
نعم فمهما دببت في الأرض فلن تخرقها ، ومهما تطاولت بعنقك ، فلن تبلغ الجبال طولا!!
وفي وصايا لقمان لابنه (ولا تصعر خدك للناس ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور واقصد في مشيك واغضض من صوتك إن أنكر الأصوات لصوت الحمير ) لقمان 19،18
( ولا تصعر خدك للناس ) لا تكلمهم وأنت عنهم معرض ولا تجعلهم يكلمونك وأنت معرض عنهم ، بل أقبل عليهم ووجهك منبسط إليهم .
(ولا تمش في الأرض مرحا إن الله لا يحب كل مختال فخور) المختال الذي يظهر أثر الكبر في أفعاله والفخور الذي يظهر أثر الكبر في أقواله ...يقول أنا فلان وابن فلان .....فالله لا يحب الصنفين معا المختال والفخور ، إنما يحب المتواضع الذي يعرف قدر نفسه ، ولا يحتقرأحدا من الناس .
(الذين يمشون على الأرض هونا ) ليس المقصود أنهم يمشون متماوتين كالمرضى كما يفعل البعض ذلك وفي ظنه أن هذا من التنسك والزهد ...
كلا فما كان النبي ولا أصحابه يفعلون ذلك ، فقد كان -صلى الله عليه وسلم- إذا مشى فكأنما ينحط من صبب(كأنما ينزل من مرتفع إلى منحدر يعنى يمشى على أطراف أصابعه كما يفعل الرياضيون الآن ) فهذه مشية أولى العزم والهمة والشجاعة .
يقول أبي هريرة (ما رأيت أحدا أسرع في مشيته من رسول الله كأنما الأرض تطوى له ، وإنا لنجهد أنفسنا وإنه لغير مكترث ) فلم يكن متماوتا ولا بطيئا إنما مشيه وسط بين السرعة والبطء .
وهكذا كان عمر لما رأى شابا يتماوت في مشيته فقال : أأنت مريض ؟ قال ما أنا بمريض ، قال : إذا فلا تمش هكذا .
ورأى رجلا يصلى وقد جعل رأسه في صدره فقال ياهذا لا تمت علينا ديننا ... ارفع رأسك فإن الخشوع في القلب وليس في الرقبة .
ورأت الشفاء أم عبد الله شبانا يمشون متماوتين ؛ فسألت عنهم من هؤلاء ؟ فقيل لها : هؤلاء نساك – عباد ....قالت رحم الله عمر لقد كان إذا مشى أسرع ، وإذا تكلم أسمع ، وإذا ضرب أوجع ؛ وكان الناسك حقا .
إذن فلا تماوت ولا اختيال وتفاخر ، وإنما سكينة وتواضع
التحذير من الكبر:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر قال رجل إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنة قال عليه الصلاة والسلام إن الله جميل يحب الجمال الكبر بطر الحق وغمط الناس ) رواه مسلم
و غمط الناس هو الاحتقار وبطر الحق هو دفعه وإنكاره ترفعا وتجبرا.
فالمسلم ينبغي أن يكون نموذج للتواضع وخفض الجناح، فلا يغتر بعلم، ولا مال
، ولا جاه ، بل كل شيء محض فضل من الله، وكرم لما يحمل من خير.
و قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( مانقص صدقة من مال وما زاد الله عبدا بعفو إلا عزا وما تواضع أحد لله إلا رفعه الله ) رواه مسلم
يروى أن مطرف بن عبد الله بن الشخير رأى المهلب ( وكان من كبار القادة العسكريين ) وهو يتبختر في جبة فقال: يا عبد الله هذه مشية يبغضها الله ورسوله فقال له المهلب: أما تعرفني فقال بلى أعرفك أولك نطفة مذرة وآخرتك جيفة قذرة وأنت بين ذلك تحمل العذرة! فمضى المهلب وترك مشيته تلك.
وقال بعض السلف (عجبت لمن خرج من مجرى البول مرتين علام يتكبر؟!!)
ومعنى كلامه أنه خرج من أبيه نطفة ، ثم خرج من فرج أمه مولودا صغيرا .
فاعرف قدرك أيها الإنسان ، فمن تواضع لله رفعه ، ومن تكبر وضعه الله .
اللهم اجعلنا من المتواضعين ولا تجعلنا من المتكبرين آميـــــــن
هذه أول صفات عباد الرحمن .
أما الثانية فهي (الحلم )
وكأنه لما ذكر حالهم مع أنفسهم وأنهم متواضعين غير مستعلين ولا مستكبرين ؛ ذكر حالهم مع الناس وخاصة مع أهل الجهل والسفه فقال : ﴿وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ أي: إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيئ لم يردوا عليهم بمثله، بل يصفحون ولا يقولون إلا خيرًا كما كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تزيده شدة الجاهل إلا حلمًا.
فهم لا يردون السيئة بالسيئة، وإن كان هذا من حقهم ، إنما يقولون قولا سديدا يليق بحالهم وسمتهم .
والجهل هنا في الآية ليس هو الجهل ضد العلم ؛ إنما هو من الجهل ضد الحلم
فالجاهل في نظر القرآن الكريم هو من عصى الله وغلب اتباع الهوى على الحق ، حينما راودت النسوة يوسف عن نفسه قال : ( وإلا تصرف عنى كيدهن أصب إليهن وأكن من الجاهلين ) يوسف 33
وموسى حينما أخبر قومه بأمر الله أن يذبحوا بقرة (قالوا أتتخذنا هزوا قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين ) البقرة 67
أي ممن يهزأون في موضع الجد أو يتكلمون بالسخرية في موضع الحق فهذا شأن الجاهلين ، وعلى هذا فالجاهل هو العاصي لأنه جهل عظمة ربه ، وهو السفيه قليل العقل سيء الخلق .
فعباد الرحمن لا يشغلون أنفسهم في معركة مع الجاهلين ، فهم ينزهون أنفسهم عن الرد على هؤلاء .
وللنبي -صلى الله عليه وسلم- مشاهد كثيرة في حلمه على الناس وفي دفع السيئة منهم بالحلم منه -صلى الله عليه وسلم- فيقابل السيئة بالحسنة، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنَّ رجلًا أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- يتقاضاه فأغلظ له، فهم به أصحابه، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (دعوه فإن لصاحب الحق مقالاً).
كذلك في الحديث المتفق عليه عن أنس -رضي الله عنه- قال: (كنت أمشي مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي، فجبذه بردائه جبذة شديدة، فنظرت إلى صفحة عاتق النبي -صلى الله عليه وسلم- وقد أثرت به حاشية الرداء من شدة جبذته ثم قال: يا محمد، مر لي من مال الله الذي عندك فالتفت إليه فضحك ثم أمر له بعطاء).
ويروي عن الحسن أن رجلاً قال : إن فلاناً قد اغتابك ، فبعث إليه طبقاً من الرطب ، وقال : بلغني أنك أهديت إليّ حسناتك ، فأردت أن أكافئك عليها ، فاعذرني، فإني لا أقدر أن أكافئك بها على التمام.
وقال رجل لحكيم ياقبيح الوجه فقال :ما كان خلق وجهي إلى فأحسنه!!!
وقال علي بن يزيد: أغلظ رجل من قريش لعمر بن عبد العزيز القول فأطرق عمر زماناً طويلاً ثم قال: أردت أن يستفزني الشيطان بعز السلطان فأنال منك اليوم ما تناله مني غداً
وسب رجل أبا بكر رضي الله عنه فقال: ما ستر الله عنك أكثر
وسب رجل الشعبي فقال: إن كنت صادقاً فغفر الله لي وإن كنت كاذباً فغفر الله لك.
ومر المسيح ابن مريم عليه الصلاة والسلام بقوم فقالوا له شراً فقال لهم خيراً فقيل له: إنهم يقولون شراً وأنت تقول خيراً فقال: كل ينفق مما عنده.
وكان الشيخ الشعراوي يتعرض للسب والغمز من بعض الكتاب والصحافيين فلما كلموه في الرد عليهم قال لن أعطيهم شرف الرد عليهم.
ورحم الله من قال :
يخاطبني السفيه بكل قبحٍ و آبى أن أكون له مجيباً
يزيد سفاهةً و أزيد حلماً كعودٍ زاده الإحراق طيباً
وآخر يقول:
إذا نطق السفيه فلا تجبه فخير من إجابته السكوتُ
إذا جاوبته فرجت عنه و إذا خليته كمداً يموتُ
فهل يمتثل المسلمون ذلك الوصف؟ فكم رأينا من مسلم غضوب، وكم رأينا من ينتقم لنفسه، وينتصر لها، بل وقد يقع بعضهم في عرض آخر، وقد يغتابه، محتجًا بأنه ينتقده ، وقد يستبيح بعضهم سباب آخرين لمجرد مخالفته في أسلوب عمل..
من أراد أن يكون من عباد الرحمن فليدع هذه المعارك التي يفتعلها الشيطان ليزرع بها العداوة والبغضاء بين المسلمين .
نسأل الله أن يرزقنا الحلم والعلم والتواضع وسعة الصدر