تصنيفات المقال:
الآداب والأخلاق
تاريخ النشر: 22 شعبان 1436هـ الموافق 9 يونيو 2015م
عدد الزيارات: 6640
من حسن الخلق: الإحسان إلى الناس، فالإحسان يدق العنق، بل يؤثر في أحقر الحيوانات وهو الكلب مع ذلك إذا ألقيت له قطعة خبز أو لحم هز ذيله، -اعترافاً بالجميل- وأثر فيه إحسانك إليه. ومن طريف ما يذكر في ذلك أن حاتماً الطائي رأى ابنه يضرب كلبة له، فقال: يا بني! لا تضربها، فإن لها علي جميلاً ومعروفاً. فإنها تدل الضيفان عليَّ.
أي: إن الضيف يسمع نباح الكلب ويرى النار، وكانت النار والكلب وسيلتان في الجاهلية لإرشاد الضال، ولذلك كانوا يتخذون الكلاب، فالغريب السائر يتبع صوت الكلب؛ لأن الكلب لا يكون إلا في مجتمع أهلي، ولا يعيش إلا في سكن وبين ناس. وقصص وفاء الكلاب معروفة، والإحسان يدق العنق، حتى إن تأثيره يتعدى إلى أرذل الحيوانات. وقد صدق الحكيم الترمذي -وهو غير الترمذي صاحب السنن- إذ يقول: «ليس هناك حمل أثقل من البّر، من بّرك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك». أي: إذا أردت أن تدخل رجلاً سجنك -وأن تكون أشرف سجان- أحسن إليه، فإذا أحسنت إليه فلا يستطيع أن يوصل السيئة إليك؛ لسابق إحسانك إليه، ولكن إذا جفوته وشتمته فقد أطلقت لسانه في عرضك، يتكلم فيك بحرية؛ وهذا مصداق يقول الحكيم الترمذي: «ليس هناك حمل أثقل من البر، من برك فقد أوثقك، ومن جفاك فقد أطلقك».
صور من حسن الخلق في حياة النبي –صلى الله عليه وسلم- وصحابته الكرام
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث المسور بن مخرمة رضي الله عنه في حديث صلح الحديبية ، لما صدت قريش رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ومن معه عن البيت، وبدأت المفاوضات بين قريش وبين النبي عليه الصلاة والسلام، فجاء بديل بن الورقاء يتفاوض مع النبي عليه الصلاة والسلام، فقال له عليه الصلاة والسلام: «إننا ما جئنا للقتال، إنما جئنا لنعتمر، فخلوا بيننا وبين البيت، وإلا فوالله! لأجاهدنهم عليه حتى تنفرد سالفتي» فذهب بديل بن الورقاء إلى قريش وأخبرهم.
فجاء عروة بن مسعود الثقفي وقال لقريش: ألستم مني بمنزلة الوالد، وأنا منكم بمنزلة الولد؟ قالوا: بلى. فقال لهم: دعوني آتيه، وقد عرض عليكم أمر رشد، فجاء عروة بن مسعود الثقفي -وكان إذ ذاك مشركاً، ولكنه أسلم بعد ذلك- فلما جاء قال: يا محمد! إنها واحدة من اثنتين: إما أن تغلب وتظفر على قومك، فهل رأيت أحداً اجتاح قومه قبلك؟ وإن تكن الأخرى -فوالله- ما أرى حولك إلا أوباشاً -وفي الرواية الأخرى: أوشاباً- خليقاً أن يفروا ويدعوك -يعني: لا جلد لهم على قتال،.
وقد رأى الصحابة رضوان الله عليهم، وقد عظهم الفقر بنابه، وظهرت عليهم الرثاثة، وقد ارتدوا القديم المرقع من الثياب، وظهر الفقر. فيقول: إن قامت حرب إياك أن تظن أن هؤلاء ينصرونك، إنهم مجموعة من الأوباش، من الغجر- فلما سمع أبو بكر رضي الله عنه هذا الكلام وهذا الشتم للصحابة، قال: أنحن نفر وندعه؟ امصص بظر اللات، وهذا سب مقذع لآلهتهم؛ فانزعج عروة وغضب، وقال للنبي –صلى الله عليه وسلم-: من هذا المتكلم؟ فقال: هذا ابن أبي قحافة أبو بكر فقال عروة بن مسعود: والله! لولا أن لك عليَّ يداً لأجبتك -أي: لولا أن لك علي جميلاً سابقاً أديته إلي لرددت عليك عيبك في آلهتنا.
فانظر كيف صده الإحسان عن الرد، وكيف صان لسانه عن الرد لسابق جميل أبي بكر ، وهذه هي عاقبة الإحسان، وهذا هو شاهدنا من القصة. فربنا تبارك وتعالى بدأ بهذه الخصلة الجامعة ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا﴾ [الفرقان:63]، وقال: وَإِذَا ﴿مَرُّوا بِاللَّغْوِ﴾ [الفرقان:72] أي: أعرضوا عنه، والرسول عليه الصلاة والسلام استعان بهذه الخصلة العظيمة على نشر دعوته.
فكان –صلى الله عليه وسلم- يسمع السب بأذنه وكأنه لم يسمع، بل إذا جاء رجل أراد أن ينتقم له أمره بالعفو، وأمره بالصفح كما رواه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: «أن النبي –صلى الله عليه وسلم- خرج من أكمة -مكان فيه أشجار كثيرة- فلما رآه عبد الله بن أبي ابن سلول -رأس المنافقين- قال: لقد غير علينا ابن أبي كبشة -وهو يسب النبي عليه الصلاة والسلام، يقول يعني: كنا سادة في أقوامنا، وبلال الحبشي لم يكن له ذكر ولا قيمة، وجاء فوضعه بجانبي، وأوقفه في الصف بجانبي، فأهدر سيادة السيد، ورفع منزلة العبيد، لقد قلب الموازين... - فسمعه النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وكان يمشي معه عبد الله بن عبد الله بن أبي ابن سلول -ابن رأس المنافقين، وكان صحابياً صالحاً، وسمع كلمة أبيه- فقال للنبي –صلى الله عليه وسلم-: يا رسول الله: والذي بعثك بالحق! والذي أكرمك! لئن أمرتني لآتينك برأسه. قال له: لا. ولكن بر أباك وأحسن صحبته»..
وهكذا فليكن الخلق. والانتقام عادةً يكون انتقاماً شخصياً، فنزه نفسك عن الانتقام لنفسك، فإن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما ضرب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أحداً بيده قط، إلا أن تنتهك حرمات الله» وعائشة رضي الله عنها هي المرأة الوحيدة التي ضربها النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وذلك أنها تخطت هذا الحد. تقول عائشة رضي الله عنها: «لما كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في ليلتي التي هي لي جاء ففتح الباب رويداً رويداً -بهدوء- وخلع نعله ومشى رويداً رويداً؛ حتى لا يحدث النعل صوتاً، ووضع جنبه رويداً رويداً على الفراش، فما هو إلا أن وضع جنبه على الفراش حتى قام رويداً رويداً، وأخذ نعله رويداً رويداً، ومشى رويداً رويداً، وفتح الباب رويداً رويداً، وانطلق. قالت: فقمت وراءه وتقنعت إزاري -ظلت تمشي خلفه- حتى وجدته عند البقيع، فرفع يده ثلاث مرات يرفعها ويخفضها، قالت: ثم انحرف -أي: راجعاً- فانحرفت، فأسرع فأسرعت، فهرول فهرولت، فأحضر -أحضر أي: مشى بتمهل- فأحضرت، دخلت الغرفة، ودخلت تحت اللحاف -لكن أنفاسها لا زالت متلاحقة، وهذا ليس حال امرأة نائمة- فدخل النبي –صلى الله عليه وسلم- فوجد اللحاف يرتفع وينخفض مع أنفاسها، فقال: مالك يا عائشة ! حشية رابية؟ -تشتكين من شيء في صدرك، لقد تركها مستريحة، وجاء وهي تنهج- رآها ارتبكت. فقالت له: لا شيء. فقال: أخبريني أو ليخبرني اللطيف الخبير. فقالت: يا رسول الله! مهما يكتم الناس يعلمه الله، وقصت عليه الخبر، وهي كانت مراقبة للموقف كله، والنبي –صلى الله عليه وسلم- يظنها نائمة، وهذا من رفقه وحسن خلقه أنه لا لم يزعجها عند دخوله، وكان إذا دخل فوجد في البيت إنساناً مستقيظاً يسلم سلاماً لا يوقظ النائم ويسمع اليقظان، وهذا من حسن خلقه –صلى الله عليه وسلم- ؛ فظنت عائشة رضي الله عنها أنه ذاهب لبعض نسائه، ولذلك خرجت وراءه، وهذا حيف وجور، لا يليق أن يظن برسول الله –صلى الله عليه وسلم- ، وهذا تعد- فقصت عليه الخبر، فقال لها: أنت السواد الذي كان أمامي؟ -الزي المستحب للنساء هو الأسود، فهي لبست هذا السواد وخرجت- قالت عائشة: فلهزني -أي: ضربني بمجامع يده- في صدري لهزة أوجعتني، وقال: أظننت أن يحيف عليك الله ورسوله بأن تكون النوبة لك وأذهب لغيرك-؟ إن جبريل أتاني، وما كان ليدخل عليك وقد وضعت ثيابك، فناداني فأخفا منك -أي: ناداني بصوت لم تسمعيه، حتى لا تسمعي فتستيقظي- فأجبته فأخفيته منك، وكرهت أن أوقظك فتستوحدي -فهي حديثة السن، وحدها بالليل، وتخاف، فحمد الله أنها نائمة- قال: وكرهت أن أوقظك فتستوحدي، فقال: إن ربك يأمرك أن تأتي أهل بقيع فتستغفر لهم -فأدارت عائشة دفة الحوار بذكاء- وقالت: يا رسول الله! ماذا أقول إذا دخلت عليهم؟ -غيرت السيرة- فعلمها دعاء زيارة القبور». وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي –صلى الله عليه وسلم- بجانبي فتحسسته فلم أجده، فظننت أنه ذهب لبعض نسائه فقمت، فوقعت يدي على قدميه منصوبتان وهو ساجد، يقول: أعوذ برضاك من سخطك، وبمعافاتك من عقوبتك، أعوذ بك منك ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك. فقلت: بأبي أنت وأمي -يا رسول الله- إنك لفي شأن وأنا في شأن آخر» هو ساجد يثني على ربه تبارك وتعالى، وهي تظن أنه ذهب لبعض نسائه، فحياته –صلى الله عليه وسلم- كلها تجسيد لحسن الخلق، فقد وصف من أعدائه بالأمين، ولم يكذبه أحد قط وهو معتقد أنه كاذب –صلى الله عليه وسلم-.
وهذا هو جماع الخير فكل خصلة من خصال الخير يمكن أن تقبل منك بحسن الخلق، وكل خصلة من خصال الخير قد ترد عليك بسوء الخلق، فحسن الخلق يحفظ كل خير، بينما لا يبقى مع سوء الخلق حسن، والنبي –صلى الله عليه وسلم- كان يسمع سبه بأذنه، وكان يتجاهل ويتغاضى، وكانت قريش لما اغتاضت من النبي عليه الصلاة والسلام تقلب اسمه وتسبه، فيقولون: مذمم -محمد من الحمد، ومذمم من الذم- فيقولون: قاتل الله مذمماً، قبح الله مذمماً، لعن الله مذمماً، فيبتسم النبي –صلى الله عليه وسلم- .
ويقول لـأبي هريرة: «انظر كيف يصرف الله عني شأن قريش، إنهم يشتمون مذمماً، ويلعنون مذمماً، وأنا محمد!» مع أنه –صلى الله عليه وسلم- يعلم يقيناً أنه المشتوم والمقصود، ولكنه يتغاضى ويتغافل، وهذا من حسن خلقه صلوات ربي وسلامه عليه. فلا يكون لك مع الناس خصومات إلا من كان عدواً لله ورسوله، فهذا ينبغي أن تغاضبه، وأن تعلن الخصومة له إذا قدرت على ذلك. فكن ذا خلق حسن متأسياً برسولك محمد –صلى الله عليه وسلم- -بحسن خلقه- في جميع أوقاته ومعاملته حتى مع أهل بيته،.
فقد كان النبي –صلى الله عليه وسلم- في بيته أفضل زوج، وكن نساؤه أسعد نساء على وجه الأرض، وإنما كان ذلك لحسن الخلق، فليتعلم الأزواج الذين حولوا بيوتهم إلى ثكنات عسكرية، وضرب ومشاكل على الدوام من خلق النبي –صلى الله عليه وسلم- في تعامله مع زوجاته وأهل بيته. فهو –صلى الله عليه وسلم- ما أسر قلوب زوجاته إلا بحسن الخلق. وعلى سبيل المثال أقول لك: هل تستطيع أن تذهب بعد صلاة الجمعة اليوم إلى بيتك إن كان عندك مثلاً صالة واسعة، وتجري أنت وامرأتك وتتسابقون؟ أظن أنك تنكر ذلك وتقول: كيف يكون هذا؟ أنا رجل والرجل له هيبة وهي امرأة- فأقول لك: إن أشرف من وطأ على الأرض بقدميه فعلها، كما رواه أحمد في مسنده عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كنا في غداةً مع النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال للصحابة: تقدموا فتقدموا، فقال لـعائشة: تعالي أسابقك. قالت: فسابقته فسبقته، فتركني -أي: تركها فترة- حتى إذا حملت اللحم -بدنت- ونسيت أمر المسابقة، وكنا في غداة؛ فقال لهم: تقدموا، فتقدموا، فقال: تعالي أسابقك. فسابقته فسبقني، فجعل يضحك ويقول: هذه بتلك» سبقتيني المرة السابقة وأنا سبقت هذه المرة.. من يفعل هذا مع امرأته؟ ! وهذا من حسن خلقه ولطفه –صلى الله عليه وسلم-.
وفي الصحيح أيضاً عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت صانعة طعام أجود من صفية» ولهذا القول قصة، وذلك أن الرسول الله –صلى الله عليه وسلم- دعا أضيافاً من الصحابة عند السيدة عائشة رضي الله عنها فبعثت صفية رضي الله عنها وعاءً فيه أكل، فكانت أحسن نساء النبي –صلى الله عليه وسلم- طباخة، وعائشة رضي الله عنها كانت حديثة السن، فإنه –صلى الله عليه وسلم- بنى بها وهي بنت تسع سنين -لكنها مثل عشرين سنة الآن- أي: أنها لم تكن تحسن الطبخ، والسيدة صفية بعثت له صحناً من الطبيخ، ففهمت عائشة رضي الله عنها أنها تريد أن تري الصحابة من يطبخ أحسن؟ فأخذت السيدة عائشة الصحن ورمته على الأرض أمام الرسول –صلى الله عليه وسلم- والصحابة الكرام، فجعل النبي –صلى الله عليه وسلم- يلملم الطعام وبقايا الإناء من الأرض وهو يضحك، ويقول للصحابة: «غارت أمكم، غارت أمكم وأتى بإناء السيدة عائشة السليم وأرسله إلى صفية ، وقال: إناء بإناء، وطعام بطعام» وهكذا،.
وانتهت المشكلة بحسن خلق النبي –صلى الله عليه وسلم- وابتسامته وعباراته اللطيفة. فأنت تتسلط على المرأة لماذا؟ نحن نعرف أنك الرجل، وأنك تملك ثلاث طلقات، نحن نعرف أن المسألة بيدك، والمرأة ضعيفة، فهي ضعيفة العقل، كما أخبر بذلك النبي –صلى الله عليه وسلم- فقال: «إن المرأة لا تستقيم لك على طريق» بل مرة هكذا، ومرة هكذا أوضاع متقلبة ولذلك قال: «إن المرأة لا تستقيم لك على طريق» أبداً، وقال: «إن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وإن أعوج الضلع أعلاه، فإن ذهبت تقيمه كسرته -لأنه عظم، هو مخلوق هكذا، إذا أردت أن تعدله كسرته- وإن تركته ظل على عوج، فاقبلوهن على عوج».
بل إن المرأة لا تسقيم لك إلا بالمعروف، فلو أنها اعتدلت مثلك هكذا تماماً ستشعر أن هناك رجلاً معك في البيت، ولا وئام ولا ائتلاف أبداً، فكان لابد من الاعوجاج حتى تسير الحياة؛ ولذلك الرسول عليه الصلاة والسلام يقول لـعائشة: «تعالي أسابقك»، وهل هذا يليق بالرجال؟ ! فضلاً عن أن يليق بمقام النبوة؟ ! لا، نزل –صلى الله عليه وسلم- إلى مستواها، لأن الله عز وجل أعطى الرجل الصلاحية أن ينزل إلى مستوى المرأة، وأعجز المرأة أن تصل إلى عقله واتزانه وتفكيره، فأنت عندما تحاول أن ترفعها إليك لن ترتفع، بل انزل إليها فإذا نزلت استقامت الحياة، والنبي –صلى الله عليه وسلم- أعطانا المثل من نفسه. إذاً: اعوجاج المرأة من كمال خلقتها، وليس عيباً فيها، ويحتجن إلى حسن الخلق، فكان النبي –صلى الله عليه وسلم- أسعد زوج، ونساؤه أسعد زوجات على وجه الأرض، كل هذا بحسن الخلق، وهي الخصلة الجامعة التي ابتدأ ربنا تبارك وتعالى بذكرها في أول خصال عباده المتقين. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.