تصنيفات المقال:
الآداب والأخلاق
تاريخ النشر: 25 رجب 1436هـ الموافق 13 مايو 2015م
عدد الزيارات: 9147
صفات وآداب طالب العلم:
أخي لن تنال العلم إلا بستـة * سأنبيـك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص وافتقار وغربـة * وتلقـين أستاذ وطول زمان
أول صفات طالب العلم: (الذكاء،):وهو معرفة نوعية ما يدرس، فليس من الذكاء أن يبدأ طالب العلم بمسائل الخلاف، فمسائل الخلاف تحتاج إلى ترجيح، وهو بَعْدُ ليس له ريش، فكيف يحلق في سماء المجتهدين؟! ليس من ذكاء طالب العلم أن يبدأ حياته العلمية بدراسة كتب الفقه المقارن التي تعنى بذكر المسائل المختلف فيها مع الترجيح؛ لأن طالب العلم إذا بدأ هذه البداية فسيكون أسيراً لصاحب الكتاب الذي درسه.
قال: (وحرص): الحرص هو الوقت، فهو رأس مال طالب العلم.
فالوقت هو العمر، وانظر إلى العلماء الذين حصلوا كيف كانوا، فهذا ابن عقيل الحنبلي له كتاب يقع في ثمانمائة مجلد، وقد كان ابن عقيل رجلاً متزوجاً، ولديه أولاد، وهو يريد أن يوفر لهم لقمة العيش، وحاجياتهم وحاجيات زوجته، وكذلك كان يتصدر للإفتاء، ومع ذلك صنف كتباً كثيرة، وهذا الكتاب واحد منها، واسمه: (كتاب الفنون). وقد طبع منه مجلدان.
فكيف استطاع ابن عقيل أن يكتب كل هذه الكتب؟ يقول: (إنني أقصر بجهدي أوقات أكلي، حتى أختار سفّ الكعك وتحسِّيه بالماء على الخبز؛ لأجل ما بينهما من التفاوت في المضغ).. فالرجل يراعي ويراقب الوقت الذي ما بين مضغ الخبز وسفَّ الكعك، يريد أن يستفيد من هذا الوقت... لقد كان يضيع على نفسه متعة الطعام.
الخطيب البغدادي كان يمشي وهو يطالع جزءاً.يقول: ابن أبي حاتم( كنت أقرأ على أبي وهو جالس، وأقرأ عليه وهو قائم، وأقرأ عليه وهو يمشي، وأقرأ عليه وهو في الخلاء).
ويقول: (دخلنا مصر فظللنا سبعة أشهر ما ذقنا فيها مرقاً، فذهبنا ثلة في نهارنا ندور على الشيوخ، فذهبنا إلى بيت بعض الشيوخ فقالوا: إنه مريض، فقلنا: فرصة لنأكل، فدخلنا السوق فاشترينا سمكة، فلما وصلنا إلى البيت حان موعد درس شيخ آخر، فتركناها، وانصرفنا، ومكثنا ندور على الشيوخ ثلاثة أيام حتى خشينا أن تفسد، فأكلناها نيئة !!لم يتفرغوا لشوائها).
إن طالب العلم النبيه لا يبدأ بالمناظرات في بداية حياته العلمية، فلا تناظر مناظرة مكابر مجادل، لكن ناظر مناظرة مستفيد.
قال أبو حاتم الرازي : كنت مع أبي زرعة ومحمد بن مسلم وكنا جماعة، فقلت لهم: من أغرب عليَّ حديثاً لـمالك أعطيته كذا وكذا، والحديث الغروب الغريب الشاذ وكان علماء الحديث يحفظونه للمذاكرة، فيقول: كم تحفظ حديثاً غريباً لـمالك ؟ فيقول الآخر: أحفظ ثلاثين حديثاً، وهو يعتقد أنه أحفظ رجل فيهم، فيفاجأ أن صاحبه هذا يحفظ مائة حديث، فيشعر باحتقار لنفسه. هذه هي المناظرة الجميلة.
وأبو نعيم الفضل بن دكين -أحد الآخذين عن الإمام الكبير العلم مسعر بن كدام - قال وهم في جنازة مسعر : (اليوم تفدون إلي وتأخذون مني حديث مسعر، ) فجاءه محمد بن بشر ، فقال: كم تحفظ عن مسعر ؟ قال أبو نعيم فقلت: أحفظ كذا وكذا، فقال لي: أتحفظ كذا؟ قلت: لا. وكذا؟ قلت: لا. قال: وكذا؟ قلت: لا، قال: حتى جاءني بسبعين حديثاً ما سمعتها قط، فقمت مستخزياً.
فلا تحتقر أحداً؛ لأنك لا تدري فقد يكون غيرك أعلم منك وأورع منك؛ بل لو ظننت أنك أقل خلق الله عز وجل لكان خيراً لك فلا توجه الاتهامات، فسبحان من لا يعلم أقدار خلقه إلا هو! إن الله وزّع الفضل على الخلق، ولم يجعل العلم محتكراً في أقوام؛ بل جعله مشتركاً مقسوماً بين عباده، يفتح للآخر ما أغلقه عن المتقدم، ويحييه بقول تالٍ يعتمد على ماضٍ، والتالي ليس كالماضي في العلم، بل السلف أعظم علماً جملةً وتفصيلاً،.
وليس معنى أنني انتقدت الإمام البخاري في جزئية أنني فقته، وإذا فقته في جزئية، فقد فاقني في مائة ألف، وليس معنى أن الخضر ادخر الله له ثلاث مسائل أنه أفضل من موسى.. لا والله فليس بأفضل منه، بل قد يكون عند المفضول ما ليس عند الفاضل، ولا يقتضي هذا أن يكون المفضول أعظم من الفاضل؛ لأن الفاضل له أشياء كثيرة جداً يفوق المفضول فيها.
فالإمام أبو حاتم الرازي يقول: من أغرب علي حديثاً لـمالك فله كذا وكذا. قال: فاجتهدوا أن يردوا علي فلم يستطيعوا، ثم عقب أبو حاتم قائلاً: ووالله ما أردت إلا أن أستفيد. أي: هو تحداهم لكي يخرج ما عندهم؛ لأنه يريد أن يستفيد.
ورحم الله ابن حبان حين قال: قال الشافعي ثلاث كلمات لم يتفوه بها أحد قبله: (وددت أن هذا العلم ينتشر ولا ينسب إلي) تجريداً للإخلاص، وقال: (ما ناظرت أحداً على الغلبة، بل ما ناظرت أحداً فأحببت أن يخطئ، بل رجوت أن يظهر الله الحق على لسانه).
لأن المقصود تحرير الحق، ولا يهم أن يجري على لساني أو يجري على لسانك، المهم أن يظهر الحق.
فكون الإنسان يذهب ليناظر وهو حريص على أن يَغلب، لن يستفيد بحق أبداً، وهذا الفعل ضد الحرص النافع.
قال: (وافتقار): الافتقار إذا أخطأه طالب العلم لم ينتفع بعلمه، والافتقار: هو : (التواضع وخفض الجناح للأقران فضلاً عن العلماء)، فالعلم يهدي إلى التواضع، وكلما تبحر الإنسان في العلم؛ كلما أدرك فداحة ما كان فيه قبل ذلك من الجهل، لما يرى رجوع العلماء عن مسائل أبرموها، ويعتقد أنه ليس أفضل منهم، بل لقد كانوا أذكى منه، وكان لهم مئات المسائل، وربما لم يكن له إلا شيخ واحد أو أكثر، لكنه لا يصل إلى عشر معشار هؤلاء، ومع ذلك أخطئوا في مسائل، فيرحم نفسه ويرحم الآخرين.
فطالب العلم إذا دخل العلم بلا افتقار لم ينتفع، فلا بد أن يفتقر ويخفض الجناح لأقرانه، ويعلم أن الله لم يختصه بالفضل، وأن هناك من هم أذكى منه وأقدر منه، وأكثر قبولاً عند الناس منه.
ومسألة القبول هي من الله عز وجل، فإذا رضي الله عز وجل عن العبد جعل له قبولاً عند الخلق، فإذا مضى بهذا التواضع انتفع كثيراً بعلمه، وانتفع به، إنما إذا اعتقد أنه هو العالم المحقق المحرر، فإنه لا يكاد ينتفع، ولا يجعل الله عز وجل له لسان الصدق الذي يبحث عنه كل طالب علم.
قال: (والغربة): والغربة على نوعين، ولا ينبل طالب العلم إلا إذا حقق النوعين معاً: النوع الأول: أن يكون غريباً في وسط الناس، له اهتمامات غير اهتمامات الخلق.. هم يبحثون عن الضياع وعن المتع وعن الدنيا، وهو يباينهم تماماً.
والإمام الخطابي رحمه الله له بيتان من الشعر فيهما يتوجع فيهما ويذكر هذا النوع من الغربة فيقول:
وما غُرْبَةُ الإنسان في شقة النَّوَى ولكنَّهَا والله في عَدَمِ الشكْل
ِوإنى غريبٌ بين بُسْت وأهلها وإن كان فيها أُسْرَتِي وبها أهْلي
يقول: ليست الغربة أن تغترب عن بلدك، لكنها في عدم الشكل: أي: ألا يكون لك شكل.
أنت من أهل السنة وكل الموجودين مبتدعة أنت غريب.. أنت طالب علم نافع وكل الذين حولك من أرباب الدنيا فأنت غريب، لا يوجد لك شكل، ولا يوجد مثلك.
و(بست) وهي اسم المدينة التي كان منها أبو سليمان . هذا هو النوع الأول من الغربة.
النوع الثاني: وهو أنبل وأعظم، وهو الذي يسميه العلماء: الرحلة في طلب العلم، أن يغترب المرء عن بلده وأولاده لطلب العلم، وعلماء الحديث أعظم الناس منة على هذه الأمة بهذه الرحلة، فأكثر الناس رحلة هم علماء الحديث، فكم من ليالٍ افترشوا فيها الغبراء والتحفوا السماء! وفارقوا الأهل والأوطان والديار في سبيل تحرير لفظة واحدة أنت لا تقيم لها الآن وزناً!!.
قال: (وتلقين أستاذ) أي: الأخذ على المشايخ، وعدم الأخذ من الكتب، وكانوا يقولون: لا تأخذوا القرآن من مصحفي ولا العلم من صحفي.
لأنك عندما تأخذ العلم من الصحف أو من الكتب فقد يخطئ الناسخ في نقطة واحدة فيتغير معنى الكلام، وعلماء الحديث لهم كتب في ذلك حصدوا بها الكتب المصحفة، مثل كتب التصحيف والغلط في الكتاب.
فإن: القرآن الكريم الذي نقلته الأجيال عن الأجيال، بأعلى درجات التواتر، نجد من يخطئ في قراءته.
فتجد طالب العلم بعد ضياع المدققين يقرأ في الكتب، ويخطئ في فهم كثير من الأشياء. فكان لابد من الدراسة على أيدي المشايخ، فقد أصبحت ضرورة أكثر من أي عهدٍ مضى؛ لأن الطالب لا يميز الصحيح من التصحيف.
والأخذ عن الشيوخ له ثلاثة فوائد: يقصر لك العمر، ويسدد لك الفهم، ويرزقك الأدب.
الفائدة الأولى: يقصر لك العمر: فإنك تأتي على مسألةٍ ما فتسأله فيها؛ كالقراءة خلف الإمام -مثلاً- فيلخص لك هذا المبحث الذي وصل البحث فيه إلى مجلد أو مجلدين في بضع كلمات. ولو جلست تبحث في هذا الموضوع لمكثت عدة أشهر، لكن الشيخ يختصر لك الزمان.
الفائدة الثانية: يسدد لك الفهم:وأذكر مثالاً: رجل صنف رسالة، وهو ممن يذهب مذهب الخوارج، فقال حديث: : (شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي) هذا الحديث إنما هو في أهل الصلاة والزكاة. وأهل الكبائر: أي: أهل كبائر الأعمال، فقوله تبارك وتعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45] قال: (وإنها لكبيرة) يعني: شفاعته لأهل الكبائر. مع أن العلماء يقولون: إن هذا الحديث في أهل كبائر الذنوب. فهذا ما تبنى هذا الرأي إلا لأنه لم يقرأ إلا من الكتب؛ فكان لابد من الأخذ عن المشايخ.-
الفائدة الثالثة: الأدب: ومن أهم ما يزرقه طالب العلم من أخذه عن المشايخ: الأدب. وعلماء الحديث كانوا يقسون على تلاميذتهم ليؤدبوهم وليكسروا الغرور فيهم.
فإذا أتى طالب العلم إلى حلقة العلم وهو رافع أنفه لأنه فلان ابن فلان؛ فإنه لا يصلح لطلب العلم، ولأجل ذلك كان الشيخ يقسو عليه ويكسر داعي الكبر فيه.
ولله در مجاهد بن جبر حين قال: (لا يتعلم اثنان: مستحٍ ومتكبر)، فالمستح يحمله الحياء أن يظهر بمظهر طلاب العلم، والمستكبر: يرى أن هذا العمل لا يناسبه، فهو ابن فلان أو ابن علان، ولذلك لا يتعلم إلا من كُسر فيه داعي الكبر.
قوله: (وطول زمان): وهذا إشارة إلى أن المرء إذا طال عمره في العلم كان أقوى في الفتوى(وطول زمان) إشارة إلى أن العلم لا يذلل لصاحبه إلا بطول الزمان. وكم من مسائل كنت أتشبث بها وأظنها هي عين الصواب، فتبين لي فيما بعد أنها عين الخطأ.
وهذا مثال يبين أن الملكة لا تأتي إلا بالممارسة: أبو حاتم الرازي رحمه الله، مر عليه حديث رواه الأعمش عن أبي سفيان طلحة بن نافع عن زيد بن عبد الله ، فقال أبو حاتم : هذا لا يشبه أحاديث الأعمش .
لقد أصبح يسمع الحديث فيعرف راويه، كما يتذوق أحدنا في بيته الأكل فيميز بين الجيد والرديء، فأصبحت هذه الأحاديث عند أبي أبي حاتم من كثرة الدربة والممارسة لها علامة خاصة، فأول ما يسمع بحديث للأعمش يقول: هكذا أحاديث الأعمش .. رجل له ملكة، وهنا قال: هذا لا يشبه أحاديث الأعمش ، هذا يشبه أحاديث عمرو بن الحصين - وعمرو بن الحصين متروك، كذبه بعض العلماء- قال أبو حاتم : ثم رحلت إلى بلد كذا وكذا وإذا بي أجد الحديث عن الأعمش عن عمرو بن الحصين عن أبي سفيان عن جابر ، قد دلسه الأعمش فأسقط عمرو بن الحصين . ما الذي عَّرف أبا حاتم أنه من حديث عمرو بن الحصين ؟!لأن أحاديث عمرو بن الحصين لها مذاق خاص عند أبي حاتم الرازي . وهذا يحصل بالدربة، ولممارسة، وبكثرة النظر.