السؤال:
مارد فضيلتكم على قول القائل بأن هذا الحديث من الأحاديث التي تخالف مقتضيات العقل السوي": ما رواه البخاري ومسلم رضي الله عنهما عن أبي هريرة - رضى الله عنه- ، قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "جاء ملك لموت إلى موسى بن عمران فقال له : أجب ربك. قال : فلطم موسى عين الملك ففقأها. قال: فرجع الملك إلى الله ، فقال: إنك أرسلتني إلى عبد لك لا يريد الموت، وقد فقأ عيني. فرد الله عليه عينه وقال: ارجع فقل له: يضع يده على متن ثور، فله بكل ما غطت يده بكل شعرة سنة. قال: أي رب، ثم ماذا ؟ قال: ثم الموت. قال: فالآن. فسأل الله أن يدنيه من الأرض المقدسة رمية بحجر".
قال: قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "فلو كنت ثمَّ ، لأريتكم قبره إلى جانب الطريق عند الكثيب الأحمر".
تصنيفات الفتوى:
الحديث وعلومه
تاريخ النشر: 2015-05-02
عدد الزيارات: 2786
الجواب:
وقد أجاب أهل العلم من هذا الحديث بجوابين :
الأول : ما ذكره الإمام العلم ابن حِبان البستي في "صحيحه" (6223) فقد قال: "ذِكْرُ خبرٍ شَنَّع به على منتحلي سنن المصطفى –صلى الله عليه وسلم- من حُرِمَ التوفيق لإدراك معناه"، ثم روى الحديث وعقب قائلاً : "إن الله جل وعلا بعث رسول الله –صلى الله عليه وسلم- معلماً لخلقه، فأنزله موضع الإبانة عن مراده ، فبلَّغ –صلى الله عليه وسلم- رسالته، وبين عن آياته بألفاظ مجملة ومفسرة،علقها عنه أصحابه أو بعضهم وهذا الخبر من الأخبار التي يدرك معناه من لم يُحرَمِ التوفيق
لإصابة الحق".
وذاك أن الله جل وعلا أرسل ملك الموت إلى موسى رسالة ابتلاء واختبار وأمره أن يقول له : أجب ربك ، أمرَ اختبار وابتلاء ، لا أمراً يريد الله جل وعلا إمضاءه، كما أمر خليله إبراهيم ـ صلى الله على نبينا وعليه ـ بذبح ابنه أمر اختبار وابتلاء دون الأمر الذي أراد الله جل وعلا إمضاءه ، فلما عزم على ذبح ابنه ، وتله للجبين ، فداه بالذبح العظيم.
وقد بعث الله جل وعلا الملائكة إلى رسله في صور لا يعرفونها ، كدخول الملائكة على رسوله إبراهيم ولم يعرفهم حتى أوجس منهم خيفة ، وكمجيء جبريل إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وسؤاله إياه عن الإيمان والإسلام والإحسان ... فلم يعرفه المصطفى –صلى الله عليه وسلم- حتى ولى.
فكان مجيء ملك الموت إلى موسى عليه السلام على غير الصورة التي كان يعرفه موسى عليه السلام عليها ، وكان موسى غيوراً ، فرأى في داره رجلاً لم يعرفه ، فرفع يده فلطمه ، فأتت لطمته على فقء عينه التي في الصورة التي يتصور بها ، لا الصورة التي خلقه الله عليها .
ولما كان المصرح عن نبينا –صلى الله عليه وسلم- في خبر ابن عباس ، حيث قال : "أمني جبريل عن البيت مرتين" ، فذكر الخبر ، وقال في آخره : "هذا وقتك ووقت الأنبياء قبلك" .. كان في هذا الخبر البيان الواضح أن بعض شرائعنا قد تتفق ببعض شرائع من قبلنا من الأمم.
ولما كان من شريعتنا أن من فقأ عين الداخل داره بغير إذنه ، أو الناظر إلى بيته بغير أمره من غير جُنَاحٍ على فاعله ، ولا حرج على مرتكبه ؛ للأخبار الجمة الواردة فيه التي أمليناها في غير موضع من كتبنا ـ
كان جائزاً اتفاق هذه الشريعة بشريعة موسى، بإسقاط الحرج عمن فقأ عين الداخل داره بغير إذنه ، فكان استعمال موسى هذا الفعل مباحاً له ، ولا حرج عليه في فعله.
فلما رجع ملك الموت إلى ربه وأخبره بما كان من موسى فيه ، أمره ثانياً بأمر آخر ، أمر اختبار وابتلاء كما ذكرنا من قبل ، إذ قال الله له : قل له : إن شئت فضع يدك على متن ثور ، فلك بكل ما غطت يدك بكل شعرة سنة ، فلما علم موسى كليم الله ـ صلى الله على نبينا وعليه ـأنه ملك الموت ، وأنه جاءه بالرسالة من عند الله ، طابت نفسه بالموت ، ولم يستمهل ، وقال : فالآن.
فلو كانت المرة الأولى عرفه موسى أنه ملك الموت ، لاستعمل ما استعمل في المرة الأخرى عند تيقنه وعلمه به ، ضد قول من زعم من أصحاب حديث حمالة الحطب ورعاة الليل ، يجمعون ما لا ينتفعون به ، ويرون ما لا يؤجرون عليه ، ويقولون بما يبطله الإسلام ، جهلاً منه لمعاني الأخبار ، وترك التفقه في الآثار ، معتمداً منه على رأيه المنكوس وقياسه المعكوس".
* قلتُ : ونقل الحافظ في "الفتح" (6/442) عن ابن خزيمة نحوه وهذا البيان من الحافظ الجليل ابن حبان رحمه الله يأتي على اعتراض "البيطري" من القواعد ، وقد تَعرِضُ شبهة لآحاد الأذكياء فاتت على المعترض ، وهي في قوله : (أجب ربك) ، فقد يقول قائل : إن هذه الكلمة كانت كفيلة بأن يعرف موسى عليه السلام أنه مرسل من عند الله.
فقد أجاب ابن حبان (14/117) قائلاً : "هذه اللفظة (أجب ربك) قد توهم من لم يتبحر في العلم ، أن التأويل الذي قلناه للخبر مدخول ، وذلك في قول ملك الموت لموسى : (أجب ربك) بيان أنه عرفه ، وليس كذلك ، لأن موسى عليه السلام لما شال يده ولطمه ، قال له : (أجب ربك) ، توهم موسى أنه يتعوذ بهذه اللفظة ، دون أن يكون رسول الله إليه ، فكان قوله : (أجب ربك) الكشف عن قصد البداية في نفس الابتلاء والاختبار الذي أريد منه". انتهى
ثم قوله لموسى عليه السلام : (أجب ربك) معناه : سلم لي نفسك لأنتزع روحك، فهذا هو القتل، ودفع الصائل مشروع حتى لو أدى إلى قتله كما قرره العلماء ، وقد قال النبي –صلى الله عليه وسلم- : "من قتل دون أهله وماله فهو شهيد".
الجواب الثاني : أنه قد ثبت عن النبي –صلى الله عليه وسلم- أنه قال : "إنه لم يُقبض نبي قط حتى يرى مقعده من الجنة ثم يُخيَّر". قالت عائشة : فلما نزل به ورأسه على فخذي غُشي عليه ، ثم أفاق فأشخص بصره إلى سقف البيت ، ثم قال: "اللهم الرفيق الأعلى". فقلتُ : إذن لا يختارنا ... الحديث.
أخرجه البخاري (8/136 ، 150 ، 255 ، 11/149 ، 357) ومسلم (2444/86) ، وأحمد (6/296) ، وأحمد (6/296) ، وابن ماجة (1620) ، وحماد بن إسحاق في "تركة النبي –صلى الله عليه وسلم- (ص 52) ، وابن عبد البر في "التمهيد" (24/268-269) ، من طريقين عن عروة عن عائشة.
وفي رواية لسعيد بن إبراهيم ، عن عروة : "ما من نبي يمرض إلا خُيِّر بين الدنيا والآخرة ...".
* قلتُ : فهذا الحديث صريح في أن كل نبي كان يخيره الله عز وجل بين الحياة والموت، وقد خُير نبينا –صلى الله عليه وسلم- .
فروى الشيخان عن أبي سعيد الخدري –رضى الله عنه- قال: خطب رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الناس وقال : "إن الله خير عبداً بين الدنيا وبين ما عنده ، فاختار ذلك العبد ما عند الله". قال : "فبكى أبو بكر، فعجبنا لبكائه أن يخبر رسول الله –صلى الله عليه وسلم- عن عبدٍ خُيِّرَ ، فكان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- هو المخير، وكان أبو بكر أعلمنا.
فلما جاء ملك الموت موسى عليه السلام في صورةٍ لا يعرفها ، يقول له : "أجب ربك" ثم هو لم يُخَيَّرُ ، وكانت آية لهم ، فعل ما فعل.
فأي نكارة ـ يا عباد الله ـ في هذا الحديث الرائع ، بعد هذا البيان المختصر لمعناه ؟! ولكن الأمر كما قيل :
ومن يكُ ذا فمٍ مُرٍّ مريضٍ *** يجد مُرًّا به الماءَ الزُّلالا