تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 23 رجب 1436هـ الموافق 11 مايو 2015م
عدد الزيارات: 4310
( إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ) [فاطر:6]، فقد لخصت الآية عمل الشيطان ومراده، وأنه إنما يدعو الناس ليدخلوا النار، وهكذا كل من في قلبه غل إنما يتمنى أن يقع الناس في السوء، كما قال عز وجل:( وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً النساء):89].
فكل من في قلبه غل يتمنى النار للناس: ولقد رأينا هذا في الذين انتحلوا فكر الخوارج من أهل التكفير، لا تقر عينه إلا إذا حكم بالكفر على كل الناس، ومن ارتكب أدنى مخالفة فهو من أهل النار عنده، عنده غل، كلما غضب تمنى أن يهلك غيره، وهذا التصرف في الحب والبغض، كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لـأسلم مولاه، قال: (يا أسلم لا يكن حبك كلفاً ولا يكن بغضك تلفاً، إذا أحببت كلفت كما يكلف الصبي، وإذا أبغضت تمنيت التلف لمن أبغضته).
فالشيطان يدعو الناس إلى النار، هذا هو مراده، مفردات شره التي وضعها في الأرض على مذهبه لا تدخل تحت الحصر: لكننا حصرناها في ستة أجناس من الشر، هي كالأعمدة والطرق، كل فرد من مفردات عمل الشيطان إنما تندرج تحت جنس من هذه الستة.
أن يدعو الناس إلى الكفر، فإن أنجى الله العبد من الكفر دعاه إلى البدعة، فإن نجا من البدعة ولزم طريق السنة أوقعه في الكبائر، فإن نجا من الكبيرة أوقعه في الصغيرة، فإن نجا من الصغيرة شغله بالمباح الذي لا ثواب فيه ولا عقاب عن الأهم، فإن نجا من هذه شغله بالمفضول عن الفاضل، وإن كان المفضول خيراً أيضاً.
لابد أن يضع أمامه عقبة من العقبات، فإذا كان الشر مستطيراً إلى هذا الحد، فكيف غفل الناس عن تتبع مذهب الشيطان، حتى يجتنبوه.
عرفت الشر لا للشـرولكن لتوقيه * ومن لا يعرف الخيـرمن الشر يقع فيه
وكان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه يقول كما رواه البخاري في صحيحه : (كان الناس يسألون النبي صلى الله عليه وسلم عن الخير، وكنت أسأله عن الشر مخافة أن يدركني)، فقه الشر أن تكون عالماً بكل شَرَك ينصبه الشيطان لك، لكي لا يقع المرء فيه من حيث لا يدري، وقد قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ) [النور:21] فهو يجرك خطوة خطوة، لا يجرك عنوة، ولا يجرك صراحاً، إنما يجرك خطوة خطوة، حتى في عبادتك.
عثمان بن أبي العاص كما رواه مسلم في صحيحه قال: (يا رسول الله إن الشيطان أتاني ليلبس عليَّ صلاتي، فقال: ذاك شيطان اسمه خنزب، فإذا جاءك فانفث عن يسارك ثلاثاً، قال عثمان : فلما جاءني نفثت عن يساري ثلاثاً فلم يأتني بعد) هذا الشيطان اللعين عمله الإضلال.
لقد رأيت أناساً نحلت جسومهم، وصاروا جلداً على عظم من الوسواس القهري الذي يغزو قلوبهم وعقولهم على غير إرادة منهم، وهم يخافون أن يموتوا على الكفر.
يأتي الشيطان فيوسوس له في ذات الله وسواساً قهرياً لا حيلة له في دفعه، فينسب الله إلى كل نقيصة عنده، وهو خائف أن يعتقد قلبه هذا اللفظ في الله فيموت على الكفر، فيأتي وقد ضاعت حياته؛ إذا كان عاملاً لا يعمل، أو كان موظفاً لا يعمل، لا ينام، لا يأكل، لا يشرب.. وهو خائف أن يموت على الكفر، فإن كان الوسواس أدنى من ذلك، وسوس له في الطهارة، فربما توضأ عشرين مرة وثلاثين ومائة، وبعض الناس يظل يتوضأ من أذان الظهر حتى يدخل العصر، وبعضهم لا يستطيع أن يأتي بتكبيرة الإحرام أبداً؛ لأنه يوسوس له، يقول له: أنت ما نويت، وما جئت بالنية. لا يدعك على الإطلاق.
فإن كان الوسواس أدنى من ذلك قال له: لماذا تذهب إلى المسجد، ألا تقصد بعملك وجه الله؟ أجل. يعني: ذهابك إلى المسجد هذا فيه رياء، داخل المسجد وخارج من المسجد تريد أن تقول للناس أنك لا تترك الصلاة!!فإن كان ضعيف العلم تأثر به، والوسواس أكثر فتكاً في العبَّاد، ولا يتمكن من العلماء أبداً، إنما يُهلك العبَّاد.
مثلاً: رجل عالم مقبل على ربه، خائف على ورعه وإخلاصه.. فجاء الشيطان وقال له: صلِّ في بيتك!! لا تصل في المسجد وراء إمام، فربما لا تدرك التسبيحات كما تريد وتقرأ كما تريد، بينما أنت في بيتك حر، تسبح عشرين تسبيحة أو مائة تسبيحة.. أنت إمامُ نفسك، وفي نفس الوقت أنت حريص على ورعك وتقواك ولا أحد يراك!! أول ما ينادي المؤذن فلتكن أول الخلق يصلي، بينما هم لا يزالون يصلون ركعتين بين الأذان والإقامة وينتظرون حتى تقام الصلاة، فأنت أول من بادر إلى ربه وصلى، وطوِّل في صلاتك.
هذه خطوة!الخطوة الثانية: الأذان، لماذا أنت مستعجل؟! هي كلها خمس دقائق، توضأ على راحتك وإن تأخرت عشر دقائق.. ثم بعد ذلك ربع ساعة، ثم نصف ساعة.. ثم يجمع الصلاة إلى بعضها، ثم يترك الصلاة.
الشيطان نَفسه طويل، لو كان عندنا من الجد في العمل جد الشياطين لكنا من أولياء الله، سئل الحسن البصري : أينام إبليس؟ قال: (لو نام لوجدنا راحة)، إنه لا ينام على الإطلاق، يعمل الليل والنهار، وكل يوم له خطة، ومذهبه واسع جداً، مفرداته -كما قلت- لا حصر لها.
الذي فرط في معرفة مذهب الشيطان ووقع في حبائله، ينبغي أن يبكي على نفسه طويلاً، وأن يكون كما قال الشاعر:
نزف البكاء دموع عينك * فاستعرعيناً لغيرك دمعها مدرار
من ذا يعيرك عينه تبكي * بهـا أرأيت عيناً للبكاء تعار
العالم الذي لا يجد الوقت إذا مر على أصحاب المقاهي -وهم يلعبون- قال في نفسه: لو كان الوقت يباع لاشتريت أوقات هؤلاء المخبولين، الذين ضيعوا أعمارهم، فهكذا.. لو كانت عيون الناس تعار ليبكي المرء بها على ما قصر وفرط في معرفة مذهب الشيطان؛ لاشترى المرء عيناً يبكي بها.
اللهم اشف شيخنا الحويني شفاءا لا يغادر سقما.