تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 21 رجب 1436هـ الموافق 9 مايو 2015م
عدد الزيارات: 5657
اللحظة: هي طائفةٌ قصيرةٌ من الزمن قد تكون كلمح البصر وقد تزيد قليلًا ولأن الإنسان لا يمتلك إلا اللحظة التي يعيش فيها ، فإن أيام الإنسان ثلاثة يومٌ مضى ، ويومٌ يأتي ، واليوم الذي يعيش فيه .
فأما اليوم الذي مضى فلا يملكه، وأما اليوم الذي يأتي فلا يملكه أيضًا لأنه قد يكون من جملة الأموات ، وأما اليوم الذي يعيشه فهو لا يملك منه إلا اللحظة التي يتنفس فيها ، لأنه قد يموت بعد دقيقة أو بعد دقيقتين .
إذًا فحياة المرء هي اللحظة التي يعيش فيها .
كما نقول مثلًا ما مدة استمتاعك بالطعام ، قد يشتهي المرء نوعًا معينًا من الأكل ، وله ثمن غالٍ ،ثم دخل إلى المطعم وجلس يأكل ، الطعام الذي يشتهيه، مدة استمتاعه بالطعام هي مدة بقاء اللقمة في فمه فقط ، أي ثلاثون ثانية مثلًا،هذه الثلاثون ثانية كم قابلها؟ ممكن يكون ثمانية وأربعون ساعة ، ممكن يكون خمسون ساعة أو أكثر .ينفق من جهده وعرقه خمسين ساعة لثلاثين ثانية وهي مدة بقاء الطعام في فمه ، لأن هذا هو الاستمتاع فقط بالطعام ، بعد بلع الإنسان الطعام انتهت المسألة .
الحياة كلها لحظة وهذه قد تكون فارقة.
إذن حتى استمتاعه بالطعام لحظة، إذن حياتنا كلها لحظة ، وهذه اللحظة قد تكون فارقة بين الهدى والضلال ، بين السعادة والشقاءـوقديمًا حدث شيئُا من هذا ونزلت سورة بسبب هذا الحدث ، ألا وهي سورة البروج ، قصة أصحاب الأخدود ، وقصة أصحاب الأخدود كما رواها الإمام مسلم في صحيحه من حديث صُهيبٍ الرومي- رضي الله عنه- ، أن ملكًا من الملوك كان له ساحر ، وهذا الساحر لما كبر قال للملك: إني كبرت فأريد غلامًا نجيبًا أعلمه السحر ، لأن السحر قديمًا كان يشبه المخابرات العامة الآن .
الملك إذا أراد أن يفعل شيئًا في الخفاء كان يستخدم السحرة ، كما تفعل الدول إذا أرادت أن تبث شيئًا أو أن تفعل شيئًا ، فالمخابرات هي التي تتدخل في هذه المسألة .
قال: إني أريد غلامًا نجيبًا أعلمه السحر فإني أخشى أن أموت وليس فيكم من يتعلمه ، وبالفعل اختاروا له غلامًا نجيبًا وذكيًا لماحًا ، فهذا الغلام وهو يذهب إلى الساحر كان في الطريق صومعة راهب ، وكان الرهبان آنذاك كانوا مسلمين ، لأنهم كانوا على دين عيسى– عليه السلام- ولم يكن بعث النبي- صلى الله عليه وسلم- .
بيان مكانة كلام الله -عز وجل-.
في مرة من المرات مر هذا الغلام على صومعة الراهب فسمع كلامه فأعجبه الكلام وهذا هو الفرق بين كلام الله- عز وجل- وبين كلام البشر ، تجد لكلام الله- عز وجل- طريقًا إلى القلب ، حتى ولو لم تفهمه تشعر أن عليه طلاوة وفخامة وجلالة ، ويدخل إلى القلب كالسحر حتى وإن لم تفهمه .
بدأ الغلام يميل إلى الراهب ويسمع الكلام ويعجبه الكلام ، ويذهب إلى الساحر يسمع طلاسم ولا يفهم شيئاً ، سحر معقد مركب ، المهم أنه بدأ يتأخر عند الراهب وينسى نفسه ، وينسى أنه ذاهب إلى الساحر ، فينسى نفسه ، وإذا ذهب متأخرًا إلى الساحر ضربه الساحر وإذا رجع إلى أهله ضربه أهله لأنه يتأخر أيضًا عن الموعد .
فشكا ذلك إلى الراهب ، قال إذا ضربك الساحر فقل حبسني أهلي وإذا ضربك أهلك فقل حبسني الساحر ، يقول للساحر أهلي أخروني وعند أهله يقول الساحر هو الذي أخرني .
حتى جاء يوم خرج فيه أسد ، دابة عظيمة ، في سنن الترمذي هذه الدابة كانت أسدًا ، هذا الأسد وقف على طريق الناس وكل الناس خافوا أن يمشوا في هذا الطريق ، فالملك يستخدم الساحر في هذه المسألة ، لابد أن يمشي الأسد ،حني يعيش الناس ويمارسون حياتهم فالساحر لأنه كبير أرسل الغلام ، فقال له: عليك بهذا الأسد أقتله أو أعمل له سحر ، المهم يترك طريق الناس ، الغلام أمسك بحجر ، ثم قال اليوم أعلم ، وهذه هي اللحظات الفارقة ، وهذا هو الشاهد من الحديث كله .
قال:" الْيَوْم أَعْلَم أُأْمُر الْرَّاهِب أَحَب إِلَى الْلَّه أَم أَمْر الْسَّاحِر ، الْلَّهُم إِن كَان أَمْر الْرَّاهِب أَحَب إِلَيْك فَاقْتُل هَذِه الْدَّابَّة "، ثم رماها بحجر فقتلها ومات الأسد .
لما قُدِمَ أمر ُ الراهب في الذكر علي أمر الساحر؟
بدا للغلام في هذه اللحظة الفارقة التي أراد أن يعرف فيها الحق من الضلال ، أن يعرف الظلام من النور ، بدا له أن يعرف خط سيره وأن يعرف حياته فرجا ، ولذلك أنظر قدم أمر الراهب في الذكر على أمر الساحر ، قال: إِن كَان أَمْر الْرَّاهِب أَحَب إِلَيْك فَاقْتُل هَذِه الْدَّابَّة "، وهذا يوضح أنه كان يميل إلى الراهب ولذلك قدمه في الذكر .
المهم لما قتلت الدابة انتشر صيت الغلام وعُرف بين الناس ، وكان مغمورًا لأنه كان تلميذًا يتعلم ، المعروف كان الساحر الكبير ، فبدأ الناس يذكرون الغلام ، فلما دخل الغلام على الراهب المسلم ، قال له الراهب:" أَي بُنَي إِنَّك الْيَوْم صِرْت أَفْضَل مِنِّي ،وَإِنَّك سَتَبْتُلي ، فَإِن ابْتُلِيْت فَلَا تَدُل عَلَي "، لا أعرفك ولا تعرفني ، إذا قبض عليك وقيل من علمك ؟ فنحن لا نعرف بعض ، وبدأ يتوافد الناس علي الغلام وصار مشهورًا .
فكان يداوي الناس من سائر الأدواء ، يأتي الأعمى ويقرأ عليه أي حاجة يبصر ، والعاجز عن المشي ، والأصم يسمع ، كل واحد عنده عاهة مستديمة كان يأتي لهذا الغلام ، فكان هذا الملك له جليس جليس نبيل يحبه الملك ويقربه ، وأنت تعرف في التاريخ يقول مهرج الملك رجل صاحب كوميديا ، الملك الرعية يتعبونه في حياته ويريدون كذا وكذا وكذا ، فيريد أن يضحك ويبتسم أحيانًا ، فلا بد أن يكون هناك واحد مهرج للمك ، يأتي له بالنكت وغير ذلك وقعد الملك يضحك ويبتسم لكي يستطيع أن يمارس حياته ، فهذا كان نديمًا للملك .
نديم: أي من أخص الناس به ، أي يحبه ، وهذا الرجل كان قد عمي فلما سمع بأمر الغلام فذهب إلى الغلام وقال له:" اشْفِنِي "وهنا بدأ الغلام يبث عقيدته التي يعتقدها ، فقال له:" أَنَا لَا أَشْفِي أَحَدا وَلَكِن يَشْفِي الْلَّه تَعَالَي ، فَإِن آَمَنْت بِه دَعْوَتِه فَشَفَاك ،"
هنا درس لكل من يبلغ كلام الله أن يكون دقيقًا في الكلام ، حتى لا ينسب شيئًا يجب لله ينسب للبشر .
الرسول- عليه الصلاة والسلام- كما في حديث أنس في الصحيحين "بَيْنَمَا هُو يَخْطُب الْجُمُعَة إِذ وَقَف أَعْرَابِي عَلَى بَاب الْمَسْجِد ، فَقَال يَا رَسُوْل الْلَّه: هَلَك الزَّرْع وَالْضَّرْع وَنَفَقَت الْمَاشِيَة- أَي مَاتَت- فَادْعُوا الْلَّه أَن يَسْقِيَنَا "،
لما قال له: الأعرابي:" هَلَك الزَّرْع وَالْضَّرْع وَنَفَقَت الْمَاشِيَة ، فَادْعُو الْلَّه أَن يَسْقِيَنَا فَرَفَع أُصْبُعَه السَّبَّابَة- عَلَيْه الْصَّلاة وَالْسَّلام وَقَال الْلَّهُم اسْقِنَا ، الْلَّهُم اسْقِنَا ، الْلَّهم اسْقِنَا."
قال أنس:" فَمَا نَزَل مِن عَلَى الْمُنْبَر إِلَا وَالْمَطَر يَتَحَدَّر مِن عَلَى لِحْيَتِه- عَلَيْه الْصَّلاة وَالْسَّلام- وَخَرَجْنَا إِلَى بُيُوَتِنَا نَخُوْض فِي الْمَاء ، وَظَلَّت تُمْطِر جُمُعَة كَامِلَة "
في الجمعة التي تليها جاء الأعرابي نفسه ووقف على باب المسجد وقال:" يَا رَسُوْل الْلَّه هَلَك الزَّرْع وَالْضَّرْع وَنَفَقَت الْمَاشِيَة فَادْعُو الْلَّه أَن يَحْبِس عَنَّا الْمَاء ،- أَي مَاتُوْا فِي الْأَوَّل مِن قِلَّة الْمَاء ، وَالْآن يَمُوْتُوْن مِن كَثْرَة الْمَاء -، فَهُنَا تَبَسَّم الْنَّبِي- صَلَّي الْلَّه عَلَيْه وَسَلَّم- ثُم قَال: أَشْهَد أَنِّي عَبْد الْلَّه وَرَسُوْلُه " .
لماذا ذكر العبودية ها هنا ؟
حتى لا ينسب أحدًا إليه إنزال المطر ، لا يجوز ، الداعية إلى الله – عز وجل- لابد أن يكون دقيقًا في اختيار كلامه ، لما قال نديم الملك للغلام اشفني ، لم يقل له سأشفيك ، إنما قال إني لا أشفي أحدًا ، فخلع حوله وقوته من المسألة كلها ، ولكن يشفي الله تعالي ، فإن آمنت به دعوته ، أنظر بين ما له هو ليس له إلا أن يدعو، فإن دعوته شفاك فآمن جليس الملك بالله- عز وجل- فرد الله- عز وجل- البصر إلى جليس الملك .
و كان جليس الملك في السابق يدخل يتحسس ، لأنه أعمى ، أو يعتمد علي أحد أو غير ذلك ، الآن دخل مبصراً ويدخل على الملك وحده ، فالملك قال له ما الموضوع "، هَل بَلَغ مِن سِحْر الْغُلَام أَن يَرُد عَلَيْك بَصَرَك ؟" فقال له جليس الملك لأنه لم يكن دبلوماسيًا قال:" لَا الَّذِي رَد عَلَي بَصَرِي هُو الْلَّه "، فالملك قال له: " أَوِّلَك رَب غَيْرِي قَال الْلَّه رَبِّي وَرَبُّك رَب الْعَالَمِيْن " قالها مباشرة ، فما زال يعذبه أنظر الصداقة راحت ، لم يعد نديم الملك ولا صديق الملك ، ولا غير ذلك المسألة إذا جاءت على الكرسي يكون فيها نسف مباشرة ، ولو حتى أخوه شقيقه .
لماذا لم يعذب الملك الغلام كما عذب نديمه؟
الغلام الملك يحتاج إليه ، لأن الساحر كبر في السن وسيموت والغلام شباب ويؤمل دائمًا أن الشباب يعيش ، وهو يحتاج إلى الغلام لأنه أثبت ذكاء وأثبت قوة لما قتل الأسد وغير ذلك ، فعندما أتى الغلام لم يعذبه مثلما عذب نديم الملك ، لأن نديم الملك لا يساوي شيئًا, لكن هذا الغلام الملك يحتاج إليه فلم يعذب الغلام ، إنما بدأ يمشي معه بطريقة دبلوماسية ، فقال له:" أَي بُنَي بَلَغ مِن سِحْرِك مَا أَرَى ، تُبَرِّئ الْأَكْمَه وَالْأَبْرَص ، وَتُدَاوِى الْنَّاس مَن سَائِر الْأَدْوَاء _ فَدَخَل الْغُلام إِلَيْه مُبَاشَرَة ، لَيْس دِبْلُومَاسِي_ قَال:" إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدا ، الَّذِي يَشْفَى هُو الْلَّه تَبَارَك وَتَعَالَي ، قَال: أَو لَك رَب غَيْرِي ؟ قَال: الْلَّه رَبِّي وَرَبِّك وَرَب الْعَالَمِيْن ، فَلَا زَال يُعَذِبُه حَتَّى دَل عَلَى الْرَّاهِب "، انتبه أن الراهب قال له:"إِن ابْتُلِيْت فَلَا تَدُل عَلَي ".
هل خالف الغلام وصية الراهب لما دل عليه ؟
لا ، لكن تنفسخ العزائم ، ممكن الإنسان يكون في الأول متجلد لكن حجم العذاب عليه كبير فيضطر أن يقول شيئًا حتى يستريح من العذاب ، وهذا هو الذي حدث للغلام ، عذبه الملك حتى يعترف فاعترف على الراهب ، وجئ بالراهب ، فقال له الملك كلمة واحدة: "ارْجِع عَن دِيْنِك ؟" هذه هي اللحظات الفارقة ، ممكن عزمه ينفسخ فيرجع ، أبي الراهب أن يرجع عن دينه الملك لم يساومه لأن هذا هو أصل الفساد في المملكة من وجهة نظر الملك ,كما كان فرعون يرى موسى- عليه السلام- هو أصل الفساد﴿ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأرْضِ الْفَسَادَ ﴾(غافر:29) ، فهل موسى هو الذي سيظهر في الأرض الفساد ، ولأن هذا هو أصل الفساد فلا يوجد تفاهم معه ، فدعا بمنشار وشقه نصفين ، شق الراهب نصفين حتى قال النبي- صلي الله عليه وسلم-:" حَتَّى سَقَط شِقَّاه " ، نصف ذهب هكذا ونصف ذهب هكذا ، والنديم جليس الملك ، قال له الملك ارجع عن دينك ؟ قال له: لا فشقه نصفين هو الآخر .
قال الملك للغلام: ارجع عن دينك ، قال له: لا ، فلم يشقه نصفين لأنه يحتاج إليه ، فلابد أن نستخدم اللغة الدبلوماسية إلى آخر مدى بدأ يهدده الأول ، ودعا فوج من الشرطة وقال خذوه على أعلى قمة جبل فإن رجع وإلا فاطرحوه من على الجبل ، فالمساومة إلى آخر لحظة لأنه خسارة كبيرة أن يخسر هذا الغلام ، وهو محتاج إليه ، وطلع الغلام مع الشرطة إلى أعلى الجبل ، فقالوا له: ترجع عن دينك أم نلقيك من على هذا الجبل ؟ فقال الغلام "رَبِّي أَكْفِنِيِهم بِمَا شِئْت فَارُتَحف بِهِم الْجَبَل فَسَقَطُوا هُم وَرَجَع إِلَى الْمَلِك "
لماذا رجع الغلام إلي الملك مع علمه أنه سيعذبه من جديد؟
ولم يهرب ، ولم يطلب لجوء سياسي ، ولا ذهب إلى دولة أخرى ولا هذه القصة ، بل رجع إلى الملك ,لأن الله- عز وجل- سيفك عرى هذه المملكة بهذا الغلام .
فلما رآه الملك قال:" وَيْحَك مَا فَعَل أَصْحَابُك ؟ قَال: كَفَانِيْهِم الْلَّه بِمَا شَاء " وكان هذا كافيًا أن يرتدع الملك ويعرف أن هناك قوة أكبر من قوته فيرجع ، لكن إنما يملي ليزدادوا إثمًا .
فدعا فوجًا من الشرطة أخذوه على البحر ، قال" خُذُوْه فِي قُرْقُور فَإِن آَمَن وَإِلَا فَنْجَّجُوا بِه "، ألقوه في البحر ، وهو يركب المركب معهم قالوا ترجع وإلا سمك القرش جاهز سيأكلك على طول قال:" رَبِّي أَكْفِيْنِيْهُم بِمَا شِئْت،فَانْكَفَأ بِهِم الْقَارِب فَغَرِقُوا جَمِيْعا وَرَجَع هُو" إلي آخر القصة التي تعرفونها .
اللحظات الفارقة في القصة.
اللحظة الأولى: لما قال لجليس الملك:" إِنِّي لَا أَشْفِي أَحَدا ،" هذه كانت فارقة بين الضلال الذي كان يعيش هذا النديم مع الملك الكافر وبين الهدى .
اللحظة الأخرى: لما ساومه الملك .
فهناك لحظات فارقة ينبغي أن يتخذ المرء فيها قرارًا مصيريًا ، وإلا ضاعت حياته كلها .
مثالاً آخر للحظات الفارقة.
المثال الآخر الذي هو أقرب لنا من هذا المثل ، لما خير النبي- صلى الله عليه وسلم- نساءه ، و حدثت مشكلة النفقة ، واجتمعن نساء النبي- صلى الله عليه وسلم- يردن منه النفقة ، وغضب النبي- صلى الله عليه وسلم- منهن ، ونزلت الآية﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ (الأحزاب: 29،28) .
وهذه لحظة من اللحظات الفارقة ، إنسانة مؤمنة ، المسائل بالنسبة لها واضحة ، في اللحظات الفارقة تأخذ ما يسعدها في الدنيا والآخرة .
فهناك ناس كما قلت في اللحظات الفارقة يعرض عليه الهدي ويعرض عليه الضلال يختار الضلال ،.
كل أمنية لك أعقبها بسؤال ثم ماذا ؟
نحن معاشر المسلمين نعلم أن المرء في النهاية لابد أن يموت ، كل أمنية لك أعقبها بسؤال ثم ماذا ؟ ونريد جوابًا ، أنت لماذا أتيت إلى هنا أو إلى هناك ؟ لأجل كذا وكذا ، ثم ماذا ؟ ، سأترقى في عملي وأصير كذا وكذا ، ثم ماذا ؟ وأصير مترقيًا إلى كذا وكذا ، ثم ماذا ؟ فلا تزال تقول له ثم ماذا بعد كل أمنية حتى تنقطع به الأماني ، لم يعد ينفع أن يتكلم ، إلا أن يقول: ثم أموت .
هل بعد الموت يمكن أن يُطرح سؤال ثم ماذا ؟
نعم ليس كما يتصور بعض الناس خطأ لما يموت إنسان يقول ذهب إلى مثواه الأخير ,لا ، القبر ليس هو المثوى الأخير ، المثوى الأخير إما في الجنة وإما في النار ، حتى بعد القبر ثم ماذا ؟ هذا السؤال لا نستطيع الجواب عنه طبعًا ، لأنه صار غيبًا بالنسبة لنا .
لكن علي الأقل في الدنيا بعد كل أمنية قل ثم ماذا ؟ حتى تنقطع الأماني .
فنحن معاشر المسلمين ومعنا أهل الكتاب الذين يعلمون أنهم سيموتون وأنهم سيبعثون مع قطع النظر من أنهم يعتقدون أنهم أهل الجنة والباقي أغلي بضاعة نملكها هي الحياة.
فتعالوا أيها الأخوة لننظر نحن إلى أغلى بضاعة في الدنيا كلها يمتلكها الإنسان ، ولن أتكلم عن الإيمان سأتكلم عن شيء محسوس ، أغلى بضاعة نملكها أنا وأنت هي الحياة مجموع السنوات التي نعيشها على الأرض رأس المال ، كل الناس يغدو كما قال- عليه الصلاة والسلام- :" كُل الْنَّاس يَغْدُو فَبَائِع نَفْسَه فَمُوْبِقُهَا أَو مُعْتِقُهَا " أول ما تقوم في الصباح أنت داخل في سوق الحياة ستبيع نفسك ، إما أن تبيعها وتربح ، وإما أن تبيعها وتخسر.
دراسة جدوى لحياة الإنسان.
فتعالوا نُقِّيم تحت عنوان دراسة الجدوى حياة إنسان ، طالما أن العمر بضاعة أي سلعة ، قال- صلي الله عليه وسلم- كما في الحديث الذي رواه الترمذي وغيره بسند حسن ، قال:" أَعْمَار أُمَّتِي مَا بَيْن الْسِّتِّين إِلَى الْسَّبْعِيْن وَأَقَلُّهُم مَن يَتَجَاوَز ذَلِك " فلنأخذ إنسانًا سيعيش ستين سنة ،ثم مات وهو لا يؤمن بالله ، فما مآل هذه القصة كلها ؟ .
قال - صلي الله عليه وسلم-:" يُؤْتَى بِأَنْعَم أَهْل الْأَرْض فَيُغْمَس فِي الْنَّار غَمْسَة وَاحِدَة , ثُم يُقَال لَه هَل مَر بِك نَعِيْم قَط ، يَقُوْل لَا وَعِزَّتِك مَا مَر بِي نَعِيْم قَط ،وَيُؤْتِي بِأَبْأَس أَهْل الْدُّنْيَا _ الَّذِي مَا ذَاق حُلْوا فِيْهَا قَط ،" فَيُغْمَس فِي الْجَنَّة غَمْسَة وَاحِدَة ، ثُم يُقَال لَه: هَل مَر بِك بُؤْس قَط ؟ يَقُوْل لَا وَعِزَّتِك مَا مَر بِي بُؤْس قَط " .
الحياة لحظة .
سل الذين يرقدون على الأسرَّة في المستشفيات وهم عجزة الذي كان ملاكماً ، والذي كان مصارعاً ، والذي كان يلعب كمال أجسام ، ثم مرض وصار طريح الفراش ,قل له: هل تذكر شيئًا من صحتك الماضية ؟ أبدًا إطلاقًا ، هو يعيش اللحظة فقط ، إذا بريء وقام من على سريره وذهب ليلعب ملاكمة مرة ثانية ، هل تتذكر أيام المستشفى لما كنت راقدًا ، إطلاقًا ، لا يذكر شيئًا من هذا ، فلما أنا آتي على جدوى حياة إنسان يعيش ستين سنة ، يحاسب على ثلاثين سنة فقط من حياته
ما الذي يستقبله الإنسان في مقابل الثلاثين سنة التي يعيشها ؟
أولًا: سيدفن لا ندري متى يبعث ، أين القبور من عهد عاد ، كلهم تحت الأرض ومر ألوف السنوات الذي يعذب يُعذب ، والذي ينعم يُنعمن فهذا أول شيء ، متى تبعث ؟ الله أعلم ألف سنة ، ألفين سنة ثلاثة ألاف سنة ، الله أعلم ، ثم يُنفخ في الصور فيبعث فيقف خمسين ألف سنة ، واقف على رجله ينظر وكما قال تعالى:﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾(إبراهيم:43) ، هؤلاء الظلمة ، يرون ناس يذهبون إلى الجنة وآخرون يذهبون إلى النار وهو مرعوب ، لماذا ؟ لأن أرحم الراحمين في ذلك اليوم استوفي غضبه .
لماذا لم يستوف الله عزَّ وجلّ غضبه في الدنيا؟
إن الله- عزَّ وجلّ- لم يستوف غضبه في الدنيا ، ولو استوفي غضبه في الدنيا ما قبل توبة تائب ، ﴿ وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ ﴾(النحل:61) إنما يستوفي غضبه يوم القيامة .
، فلما يكون واحد واقف لكي يستمتع بثلاثين سنة فقط على هذه الحياة الدنيا يقف ويعاين كل هذه الأهوال ، من أول ما يموت إلى أن يبعث يوم القيامة ، ثم هو مرعوب ولا يعرف إن كان سيأخذ كتابه بيمينه أم بشماله ، وسيذهب إلى الجنة أم إلى النار ، وفي الآخر يسحب إلى النار هذا كله لأجل ماذا؟ ثلاثين عامًا هذا هو المغبون الخاسر حقيقة ، لأن حتى لو ثلاثين سنة سيعيشها منعم في مقابل ثلاثين سنة من العذاب ، فلا يوجد بني آدم في الدنيا يختار أن يكون فيه معادلة ، لأن العذاب لا يتحمل ، أين العقل ؟ يضحي بالجنة وما فيها لشهوة ساعة وتذهب اللذات وتبقى التبعات والنبي- صلي اله عليه وسلم- يقول كما في حديث سهل بن سعد ألساعدي- رضي الله عنه-:" لَمَوْضِع سَوْط أَحَدُكُم فِي الْجَنَّة خَيْر مِن الْدُّنْيَا وَمَا فِيْهَا " . موضع سوط ، والسوط الذي هو عبارة عن كم في كم ، عبارة عن اثنين سم في متر ، والسوط أي العصا ، موضع سوط في الجنة لو ربحته خير لك من أن تمتلك الأرض كلها ، موضع هذا السوط هل تستطيع أن تقف عليه ، تضع قدمك عليه ؟ لا تستطيع إلا إذا كنت تعمل في السيرك ، يمشي على الحبل ، ويمشي على العصا وهذا الكلام فقط ، حتى لا يساوي موضع قدم .
ليس في الدنيا نعيم خالص.
لابد أن يكون مكدراً ، كل نعمة تكدر ولد فاسد يكدر الأسرة كلها جار فاسد يجعلك تريد أن تهرب من البلد وتترك المكان ، زوجة نكدية تريد أن تراها مبتسمة ، تريد أن تهرب من الدنيا كلها لو ابنك صالح وجارك صالح وامرأتك صالحة رئيسك في العمل يريد أن يجعلك تهرب من الدنيا كلها ، أي ليس هناك نعيم خالص ، لذلك الآية التي في سورة الأعراف لابد أن نقف وقفةً لنبين معنىً معينًا ، قال الله- عز وجل-:
﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾(الأعراف:32) تقف ثم تبدأ وتقول:﴿ خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ ، لماذا لأنه ليس في الدنيا نعيم خالص .
لابد أن تختار الآن في هذه اللحظة الفارقة بين الدنيا وبين الآخرة .
إن كنت تريد الآخرة فالآخرة لها عدتها لأبد أن تأخذ بأسبابها أخذًا صحيحًا كما أمر الله- عز وجل- ، وكما أمر النبي- صلي الله عليه وسلم- ، ونهي الله- عز وجل- ، ونهى النبي- صلي الله عليه وسلم- أما من كان يريد الدنيا فهذا له شأن آخر ، وما أظن عاقلًا بعد هذا الذي سمعه يقول أنا أختار الدنيا .
إن الله- عز وجل- لما حرم علينا أشياء كان المقصود من التحريم أن تكون حياتك بهيجة ، وهذا لا يعرفه إلا قليل من أهل العلم ،.
فمن جملة فوائد التحريم: أن تظل حياتك بهيجة ، فلما حرم الله- عز وجل- علينا كذا وكذا ، القصد ، أن نستمتع بالطيبات التي أحلها لنا لأن الدنيا كما قلت لكم من خساستها أن كل متعها مبنية على الحرمان ، فأنا أرجو في هذه اللحظة الفارقة وبعد أن أظهرنا هذا وهذا وكما يقول الشاعر: وبضدها تتميز الأشياء ، أن يكون الصورة قد وضحت تمامًا ، وأن المرء إذا كان رُكِبَ فيه آلة العقل ،والعقل في القلب كما هو معروف ، فإنه لا يمكن أن يختار الدنيا على الآخرة .
قال الفضيل بن عياض: (لو كانت الدنيا ذهبًا يفنى ، والآخرة خزفًا يبقى ، لكان على العاقل أن يختار الخزف الباقي على الذهب الفاني ).
أسأل الله -تبارك وتعالي-أن يبصرنا وإياكم ،وأن يهدينا وإياكم وأن يتقبل منا وإياكم ، وأن نخرج من هذه الدنيا علي خير ، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم وصلي اللهم وبارك على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين .
اللهم ياحى ياقيوم اشف شيخنا الحويني شفاءا لا يغادر سقما