تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 11 رجب 1436هـ الموافق 29 أبريل 2015م
عدد الزيارات: 6482
الله-سبحانه وتعالـى- لو لم يحلم علي عبده لأخذه عند أول معصية، وقد قال الله سبحانه وتعالى: (وَلَو يُؤَاخَذ الله النَّاس بما كَسَبُوا ما تَرَك عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّة).فهنا يتجلى حلم الله- سبحانه وتعالى وأنه لا يعجل كما يعجل أحدنا،.
حيثما وجدتَ صفة الحلم في القرآن فاعلم أن العبد مستحق للعقوبة. ارتكب ذنبا، ولذلك حلُمَ الله سبحانه وتعالـى عليه.
معنـى الحلم من كتاب الله:مثلا قول الله سبحانه وتعالى: (قَوْل مَعْروف وَمَغْفِرَة خَيْر مِن صَدَقَة يَتْبَعُهَا أَذًى، والله غَنِيّ حَلِيم)أنك لو سُئِلتَ نوالاً أو سُئِلتَ عطاءً ولم يكن معك هذا العطاء، فقلت فولاً معروفا فهذا خيرٌ لك عند الله عز وجل، وعند النَّاس مِن أن تقدم المعروف ثم تَمُنَ به، لأن الأيام دول، هذا الذي يَمُن يَمُن بشيء وُهِبَ له،.
كما قال سبحانه وتعالـى: (وَأُنْفِقُوا مما جَعَلَكُم مُسْتَخْلَفِين فِيه).- مُسْتَخْلَفِين فِيه،- أي سيُسأل كل إنسان عن هذا المال مِن أين كسبه، وفيما أنفقه، كما هو في الحديث المشهور.
فهذا المال الذي وهبنا الله عز وجل إياه، وفضل بعضنا علي بعض فيه لأجل أن يبتلينا فيما آتانا فهذا المال الذي فضلك الله سبحانه وتعالى به، وحرم منه آخر جعل الأخر يأتيك ليسألك نوالاً أو عطاءً.فقال الله- سبحانه وتعالـى-( قوْل مَعْروف وَمَغْفِرَة خَيْر مِن صَدَقَة يَتْبَعُهَا أَذًى، والله غَنِيّ). كما قال -عزوجل -فـي حديث أبـي هريرة عند مسلم وغيره (يقول ابن آدمُ مالي مالي).
يتفاضل النَّاس فـي الدنيا بأشياء مِن أهمها المال:حتى أن كثيرا مِن النَّاس يزن غيره بالمال، علي قدر ما معك مِن المال يكون لك وزن، وهذا لعمري من الموازين المختلة عند البشر، لما يفتقر هذا الإنسان، ولا يكون عنده مواهب ذاتية، يحدث له حالة اكتئاب، يفقد الثقة في نفسه، لأنها رمز الدنيا.
كما قال القائل: "الدنيا إذا أَقَبَلَت بلت، وإذا أدبرت برت، وإذا أينعت نعت، وكم مِن ملك رفعت له علامات، فلما علا مات"(إذا أدبرت برت ) تهلك صاحبها لأنها إذا أقبلت عليه خلعوا عليه مِن صفات الكمال ما ليس فِيه أصلا، فإذا أدبرت عنه الدنيا لا يسأل عنه سائل.
والذي يعرف هذه الحقيقة أصحاب المِناصب الكبيرة، الذين عُزِلوا أو انتهت مدة رئاستهم، هؤلاء يشعرون بحسرة كبيرة جدا. لأنه كان يضع بوابا علي مكتبه مِن كثرة الطلب عليه، وكثرة المتصلين به ولا يكاد يفتر ساعة مِن ليل أو نهار إلا وهناك مواعيد ومكالمات،ويخلعون عليه مِن صفات الكمال ما ليس فِيه، فإذا عُزِلَ أو استقال أو انتهت مدة ولايته، يرى نفسه وحيداً فريداً ينظر أحيانا إلى الهاتف، هل هذا هو الهاتف الذي كان لا يكف عن الرنين؟ أين ذهب رنينه؟ فيحدث له نوع مِن الاكتئاب والحزن الدفين، ويعلم الدنيا علي حقيقتها، فيعلم أن هذه الدنيا كلها مصالح، وأن كل مِن كان يرتادون مكتبه ويكلمونه ويبتسم لأجله ويجلبون له الهدايا كان هذا فقط مِن أجل قضاء مصالحهم، وليس لأجل أنه محترم.
فإذا أعطاك الله عز وجل نعمة مِن النعم فلا تحجبها.
قال الله سبحانه وتعالى في الحديث القدسي: (عبدي أنفق، أُنْفِق عليك).وقال النبي- صلي الله عليه وسلم-: ( ما مِن صباح ينشق فجرُه إلا وينادي ملكان يَقُول أحدهما اللهم أعطي ممسكاً تلفاً وأعطي مِنفقاً خلفا).
الذي يعطي، الله عز وجل يخلف عليه. (وما أَنْفَقْتُم مِن شيء فهو يُخْلِفُه وهو خَيْر الرَّازِقِين) المراد بالآية :فقد أعلمننا ربنا-سبحانه وتعالى- في هذه الآية أن الذي يمسك ما أعطاه إياه ولا يعطيه للناس في باب المواساة والحاجة كقرض و نحوه أن الله غنيٌ عن عطاء هذا.
أصل الغنى :ألا تحتاج إلى أحد، و هذا كلام النبي- عليه الصلاة والسلام- قال: (قال ليس الغنى عن كثرة العرَض). ( العرَض) الشيء المملوك ليس الغنـى أن يكون عندك متاجر عندك مصانع عندك أراضـي,إنما الغنـى غنـى النفس،.
المراد بالحديث : أنك فقيرٌ ما احتجت إلـى درهم.لو عندك مليارات واحتجت إلـى مائة جنيه لكـي تكمل الشيك أو البضاعة أو شـيء مِن هذا القبيل، فأنت فقير.
الفقر هو الحاجة طالما أنك أنت محتاج فأنت فقير: ولذلك قال الله -عز وجل-: (يا أيها النَّاس أَنْتُم الفقراء إلـى الله، والله هو الغنـي الحميد).0(أي المحمود) الغنـى الحقيقـي هو غنـى الله سبحانه وتعالـى. أما كل عبد ففقير، إما هو مفتقرٌ إلـى ربه، وإما مفتقرٌ إلى غيره مِن الخلق، إذن أنت فقيرٌ ما احتجت إلـى درهم.
وهذا الحديث مِن حديث علـي عند أحمد وغيره وهو في الصحيحين مِن طريق آخر، أن علـي ابن أبـي طالب فـي الحديث الذي فِيه( أن فاطمة ك مَجُلَت يَدُها من الرحـى)- المجل - انتفاخ الجلد من أثار العمل الشاق، ويصبح له قبة بها ماء،وعلـي ابن أبي طالب، قال( لقد سنوت) حتـى مرض صدره سنوت- السانية- هـي الناقة التـي يُستقـى عليها الماء. فقد كان يحمل الماء من البئر ويحمل على كتفيه ويضعه علـى الناقة إلـى أن تعب صدره، فعلم علـي ت أن النـبي -صلي الله عليه وسلم- آتاه أعبدٌ وسبايا من البحرين. فقال لفاطمة اذهبي إلى أبيك فقد مَجُلُت يدكِ وقد سنوت،فلنستعن بخادم، فاطمة إلـى النبـي -صلي الله عليه وسلم،- فلما رآها قال:" ماذا تريدين يا ابنتي؟ أو لماذا جئتـي؟ قالت جئت لأسلم عليك. و استحيت أن تذكر حاجتها، فلما رجعت إلـى علـي ت، قالت استحييت أن أطلب شيئا.فذهب علـي مع فاطمة إلـى رسول الله-صلي الله عليه وسلم-وقال: يا رسول الله (لقد سنوتُ)، (وفاطمة مَجُلَت يدها) فأعطنا خادما فقال والله لا أعطيكما، وأدع أهل الصُفة لا شيء لهم، بل أبيع هؤلاء وأنفق أثمانها عليهم.
انصرف علـي وفاطمة -ك -وفـي الليل. -النبـي صلي الله عليه -وسلم طرق عليهما الباب ودخل فقال "ألا أدلك،- وفـي اللفظ الأخر، وهو يخاطب فاطمة لما ذهبت إليه قال ألا أدلك على خير من خادم؟ إذا أويتـي إلـى فراشكِ تسبحين الله ثلاثا وثلاثين، وتحمديه ثلاثا وثلاثين، وتكبريه أربعا وثلاثين، فذلك خير لكِ من خادم."
من الحقائق المعروفة أن فاطمة ك كانت جزءً من النبـي -عليه الصلاة والسلام- كانت بضعة منه حتـى قال يريبنـي ما رابها ويؤذينـي ما آذاها، وكانت أحب الناس إليه.كان من الممكن أن يعطيها خادما يكفيها مؤنة العمل، ولكنه أرشدها إلى ما هو أفضل من ذلك، ألا وهو تسبيح الله سبحانه وتعالى وتحميده وتكبيره.
النكتة فيها أن الذكر هو أعلى المراتب وأن العبد ، إذا انشغل عن حاجته بالذكر أعطاه الله عز وجل أفضل مما يعطـي السائلين.
ومما يدل علـى هذا حديث دعاء الكرب:حديث علي ابن أبـي طالب، لما علمه النبي -صلي الله عليه وسلم- دعاء الكرب (لا إله إلا الله الحليم الكريم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض وما بينهما رب العرش الكريم) هذا دعاء الكرب.
شخص سقط فـي ورطة يقول هذا الدعاء. وهذا ليس دعاء هذا ثناء، ثناء علـى الله سبحانه وتعالـى، فانشغل العبد عن حاجته، رغم أنه مكروب،أي ليس شخصاً يطلب غنـى أو يدعوا هكذا فقط من جملة الدعاء. فالإنسان يدعوا بأدعية كثيرة، لا فهذا مضطر للدعاء ومكروب وواقع في ورطة ويحتاج إلى رفعها، فانشغل عن ورطته بالثناء على ربه سبحانه وتعالـى فهذا يعطيه أفضل ما يعطـي السائلين.وسئل سفيان ابن عيينة- رحمه الله- عن هذا الحديث، قيل له يا أبا محمد هذا ثناء وليس دعاءً فقال له ألم تسمع إلى عبد الله ابن جدعان لما مدح أمية ابن أبي الصلت:
أأذكر حاجتـي أم قد كفانـي |
حياؤك إن شيمتك الحياء |
إذا أثنـى عليك المرء يوما |
كفاه من تعرضه الثناء. |
يريد أن يقول له بلغ من حيائك أنك لا تعطـي أحداً فرصة ليسألك، بل بمجرد أن ينظر إلـى صفحة وجهه يعرف ماذا يريد، فلا يحوجه إلى إراقة ماء وجهه فيقول أنا أريد قرضا أو أنا أريد إحسانا أو أنا أريد شفاعة، لا بلغ من حيائه أنه لا يحوج الطرف السائل أن يقول أريد كذا بل يعطيه من غير سؤال.
قال سفيان ابن عيينة، فهذا المخلوق فكيف بالله عز وجل، فإذا انشغلت بالثناء علـى الله سبحانه وتعالـى عن حاجتك والله يعلم حاجتك ويعلم ماذا تريد، أعطاك أفضل مما يعطـي سائل الحاجة.
أقول قولـي هذا و أستغفر الله العظيم لـي ولكم وللحديث بقية إن شاء الله إن جمعنا الله بكم.
اللهم ياقاضي الحاجات ويامفرج الهم والغم نسألك أن تفرج كروبنا وتقضى حاجاتنا فأنت نعم المولى ونعم النصير.
* * *