تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 11 رجب 1436هـ الموافق 29 أبريل 2015م
عدد الزيارات: 4695
ابتداءً ينبغـي أن نعلم أن الله عز وجل لما وصف عداوة الشيطان فـي القرآن، وصفها بأنها بينة، ومعنـى بينة -أي أنها لا تخفـى علـى أحد حتـى تقوم حجة الله كاملة،-
وتكرر فـي كثير من آيات القرآن قول الله عز وجل: ( إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا).
وقال تعالـى: ( أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ ) فعداوة الشيطان بينة، فكان ينبغـي للمرء أن يحترز منها،. وأنزل الله عز وجل الكتب، وأرسل الرسل للتذكير بهذه العداوة،
ومما يدل علـى شدة عداوة هذا الشيطان لابن آدم:
حديث أبـي هريرة ت قال -صلي الله عليه وآله وسلم-: (ما من مولود يولد إلا وينخسَهُ الشيطان ساعة يولد) لذلك يستهل صارخاً.
المولود عند نزوله من بطن أمه ينزل صارخاً، لأن الشيطان نخسه وهو ينزل من بطن أمه، مع أن هذا المولود لا له سن تقطع، ولا يد تبطش، أي ما فعل شيئا قط، لكن هذا لشدة عداوته وفرط عداوته للإنسان يذكره، بأنه علـى الرَصَد.
ولكن أنظر كيف وُضِعت هذه المصيدة،قال الله -عز وجل-: ( إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا ۚ لَعَنَهُ اللَّهُ ۘ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا وَلَأُضِلَّنَّهُمْ )
لننتبه لهذه الكلمات الثلاث التالية: ( وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ ).
عندي فقط ثلاث كلمات( وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ )هكذا علـى الترتيب: الأمانـي جاءت فـي الوسط، سبقها الإضلال، وتبعها الأمر.
وأنا أريد أن أكشف بعضا من معانـي هذا الترتيب، لأن المرء لا يوغل فـي الأمانـي إلا إذا ضل، والأمانـي (التمنـي) من عمل القلب، .
كما قال -صلي الله عليه وسلم-. فـي الحديث المتفق عليه من حديث ابن عباس- م- قال: ما رأيت أشبه باللمم من قول أبـي هريرة عن رسول الله- صلي الله عليه وآله وسلم- (كُتِبَ علـى ابن آدم حظُهُ من الزنا، فهو مدركُهُ لا محالة)المراد بالحديث: أي إنسان منا لابد أن يقع فـي الزنا، هذا معنـى الكلام: (كُتِبَ علـى ابن آدم حظُهُ من الزنا، فهو مدركُهُ لا محالة العين تزنـي وزناها النظر ، واليد تزنـي وزناها البطش، والرجل تزنـي وزناها المشـي، والفم يزنـي وزناه القبل. والقلب يتمنـى، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه)( القبَل) فمثلا هذه اللفظة ليست فـي الصحيحين، ولا حتـى موجودة فـي صحيح مسلم من حديث أبـي صالح، إنما هي عند أبـي داود وأحمد.
هذا الحديث رواه كثيرون من أصحاب أبـي هريرة، علـى رأسهم ابن عباس -م،- ويرويه أيضا الأعرج، ويرويه زكوان أبو صالح، الحسن البصري، ويرويه أبو رافع، ويرويه أبو سلمه ابن عبد الرحمن، وآخرون.أنا أنبه علـى هذا لأننـي من عادتـي إذا ذكرت حديثا وأعزوه مثلا للصحيحين، قد أذكر فيه بعض ألفاظ ليست فـي الصحيحين، فحتـى لا يتصور أحد أننـي أعزوا لغير الصحيحين، أنبه علـى أننـي إذا ذكرت ألفاظ حديث ما، أذكر ألفاظه من جميع طرقه، تقريبا ولكن أكتفـي بالعزو إلـى الصحيحين، ليس لخصوص هذه الألفاظ، أنا فقط أنبه علـى هذا لأنه أحيانا يقع منـي مثل هذا، فبعض الإخوة كان راجعنـي لفظة كنت عزوة الحديث للصحيحين قال ليس في الصحيحين.
المراد بالحديث : أن كل إنسان، لابد أن يقع فـي الزنا. اسماً، وليس حكماً، متـى يكون وقع فـي الزنا حكما إذا زنـى الفرج. وهذا كلام النبـي- صلي الله عليه وسلم -(والفرج يصدق ذلك أو يكذبه) إن من نظر إلـى ما لا يحل له فقد زنـى بصره، ومن ضرب من لا يستحق أن يُضرَب فقد زنت يده، ومن مشـى إلـى محرمٍ فقد زنت رجله، وهكذا.
فالرسول- عليه الصلاة والسلام- عندما يقول (كُتِبَ علـى ابن آدم حظُهُ من الزنا، فهو مدركُهُ لا محالة ) عندما جاء ذكر القلب، قال( والقلب يهوى ويتمنـى) هذه الأمانـي تبدأ هكذا، فإذا استمكنت من القلب تحولت إلـى إرادة، فإذا تحولت إلـى إرادة، انفعلت الجوارح له، لذلك كان الاهتمام بالقلب، علـى رأس هذه الأولويات.
صلاح القلب يعفينا من هذا الباب كله، لأننـي قلت لكم فـي المرة الماضية إن الأمل منه ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود، كأي شـيء يمكن أن يُذَم ويمكن أن يحمد، فبابنا الآن هو باب الأمل، وإنما الأمل ينعقد فـي القلب، وهو التمنـي ينعقد فـي القلب ولا يتمنـى المرء إلا إذا طاب أمله، والأمانـي ممكن أن تكون لما مضـى، مما هو مستحيل أن يعود، ولذلك يسترجعه المرء بلفظة لو التـي تفتح عمل الشيطان، وأنا سألقـي ضوءا عليها إن شاء الله تعالـى لكن إنا ارجع إلـى ملاك ذلك كله ألا وهو القلب.
وهذا الكلام ربما ذكرته منثورا فـي عدة مواضع لكننـي أحتاج أن أذكره مجموعا، وأحتاج أن أذكر به مرة أخرى، والمعانـي لا تثبت إلا إذا كررت، يعنـي إذا بعض الناس سمع منـي كلاما سمعه قبل ذلك، فليعلم أن هناك من هو أحوج إليه منه أيضا ربما سمعه قبل ذلك مراراً لكنه ما فهمه.
القلب تلك المضغة النفيسة تحتوي علـى العقل، والعقل يبنـى عليه كل سعادة المرء فـي الدنيا والآخرة إذا سلم هذا العقل، ولذلك يقول الله تبارك وتعالـى: ( أفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ۖ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور).
انتبه لهذا الاقتران مابين القلب والسمع، لأنه تكرر أكثر من مرة فـي القرآن. ( فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ). وقال تعالـى: ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ). وقال تعالـى: (وَنَطْبَعُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ ).ارتباط السمع بالقلب لأن الوحـي سمع كله:
وهذا ما يسميه العلماء الدليل السمعـي، الوحـي سمع أي إذا سمعت نداءاً فـي القرآن: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ) فأرعه سمعك كما يقول ابن مسعود: (فإنما هو خير تُؤمر به، أو شر تُنهـى عنه)
لا يستفيد المرء إلا إذا كانت قناة السمع مفتوحةً إلـى القلب.
ولذلك قال الله عز وجل: ( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ ).المراد بالآية :جاء هنا العقل مع السمع لأن المرء إذا لم قناة السمع مفتوحة إلـى القلب فهو لا يفقه لأن القلب فيه العقل.كما قال تعالـى: ( رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ)وقال فـي شأن المنافقين: ( ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ )، والفقه لا يكون إلا بالقلب.
فسر نفاسة القلب أن العقل فيه، وإذا عمـي العقل ضل المرء،:
ولذلك فإن الشيطان قبل أن يلقـي إلـى الإنسان بشرك الأمانـي ومصايده لابد أن يعميه الأول لأجل هذا قال: (وَلَأُضِلَّنَّهُمْ).
الشيطان لا يستطيع أن يصل إلـى القلب بسهولة، فإن القلب بنيان محكم، لكنه يبدأ غاراته علـى فناء القلب، قال الله عز وجل: ( قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ مَلِكِ النَّاسِ إِلَٰهِ النَّاسِ مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ ) الشيطان يوسوس فـي الصدر، لأنه لا يستطيع أن يصل إلـى القلب بسهولة إلا إذا غفل صاحبه .
أسأل الله تبارك وتعالـى أن ينفعنـي وإياكم بما علمنا وأن يعلمنا ما جهلنا وأن يجعل ما قلته لكم زاداً إلـى حسن المصير إليه، وعتاداً إلـى يمن القدوم عليه، إنه بكل جميل كفيل، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلي الله وسلم وبارك علـى نبينا محمد، والحمد لله رب العالمين .
* * *