تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 11 رجب 1436هـ الموافق 29 أبريل 2015م
عدد الزيارات: 3813
قال الإمام البخاري رحمه الله في كتاب الرقاق من صحيحه ، قال باب في الأمل وطوله وقول الله تعالي:( فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلا مَتَاعُ الْغُرُورِ) [ آل عمران:185] وقوله تعالي:( ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ﴾ [ الحجر:3] .قال البخاري :بمزحزحه : مباعدة.
قال علي :- ضى الله عنه-" ارتحلت الدنيا مدبرة وارتحلت الآخرة مقبلة ولكل واحدة منهما بنون فكونوا من أبناء الآخرة ولا تكونوا من أبناء الدنيا فإن اليوم عملٌ ولا حسابٌ وغدًا حسابٌ ولا عمل"
حدثنا صدقةُ بن الفضل أخبرنا يحي بن سعيد عن سفيان قال حدثني أبي عن منذرٍ عن ربيع بن خثيم عن عبد الله بن مسعود- ت-قال: ( خط النبي صلي الله عليه وآله وسلم خطًا مربعًا وخط خطًا في الوسط خارجًا منه وخط خططًا صغارًا إلى هذا الذي في الوسط من جانبه الذي في الوسط وقال هذا الإنسان وهذا أجله محيطٌ به أو قد أحاط به وهذا الذي هو خارج أمله وهذه الخُطُط الصغار الأعراض فإن أخطأه هذا نهشه هذا وإن أخطأه هذا نهشه هذا ).
حديث بن مسعود- ت- الذي قرأناه من صحيح البخاري رحمه الله له شواهد:
الشاهد الأول: عن أنس- ت- وهذا سيأتي في الحديث الذي يأتي بعد هذا في البخاري والبخاري- رحمه الله -روى في هذا الباب حديثين حديث بن مسعود وحديث أنس ت وعندما يأتي حديث أنس سنتكلم عنه وروى هذا المعني أيضًا أبو سعيد ألخدري ت وهذا في مسند الإمام احمد بسند قوي وهناك حديث شاهد ثالث وهو لعبد الله بن الشخير- ت -وهو في سنن الترمذي .
لفظ أبي سعيد ألخدري- ت- قال إن النبي -صلي الله عليه وسلم (غرز بين يديه غرزًا- أحضر خشبة أو رمح وغرزه في الأرض- ثم بجانبه غرز غرزًا آخر -رمحًا آخر أو خشبة-ثم غرز خشبة ثالثه
فصار عندنا ثلاث خشبات ، النبي- صلي الله عليه وسلم- غرزها في الأرض هذا الرمح الأول أو الخشبة الأولي وهذه الثانية وهذه الثالثة فقال- عليه الصلاة والسلام -:( هذا الإنسان- الغرز الأول الإنسان- ، قال : هل تدرون ما هذا ؟ قالوا الله ورسوله أعلم ، قال هذا الإنسان وهذا أمله - فهذه خشبة وبجوارها الثانية وبجوارها الثالثة ، فأين أمله ؟ أمله الخشبة الثالثة بينهم الاثنين الأجل .
فالنبي عليه الصلاة والسلام يقول:-( هذا الإنسان هنا وهذا أمله يتعاطاه يختلجه دون ذلك )( يختلجُهُ) -أي يأخذه أي أن أمله بعيد وطويل جدًا- ، لكن أجله أقرب من أمله بينما هذا الإنسان يريد أن يتعاطي هذا الأمل البعيد إذا أجله أقرب إليه من أمله. وأنتم ترون أن الحديث تقريبًا يكاد يوافق لحديث عبد الله بن مسعود- ت-.
الشاهد الثالث :ونحن عندنا في هذا المعني أربعة أحاديث .
الحديث الأول: حديث بن مسعود وهو حديث الباب الذي نشرحه.
الحديث الثاني: حديث أنس الذي سوف يذكره البخاري بعد ذاك.
الحديث الثالث: رواه الإمام أحمد في مسنده بسند قوي .
الحديث الرابع: وهذا كل ماورد في الباب على حسب بحثي هو حديث عبد الله بن الشخير وهذا الحديث الإمام الترمذي أخرجه في سننه وحسنه يقول رسول الله صلي الله عليه وسلم فيه( مُثِلَ بن أدم وإلى جنبه تسعٌ وتسعون منية إن أخطأته المنايا وقع في الهَرَمِ حتى يموت ) إنسان يصل عمره إلى الثمانين أو التسعين سنة وهو بصحة جيدة ويلعب رياضة في الصباح ويجري ويتحرك - أخطأته المنايا- بمعني أنه لم يمرض وإذا مرض كان مرضه خفيفًا ثم يواصل حياته .
فيكون المرض أو الأمر الذي لا حيلة معه أبدًا ألا وهو الهرم أن يرد إلى أرذل العمر ثم ماذا ؟ قال الموت ، مهما طال عمره لابد أن يموت.
كما في حديث أبي هريرة في الصحيحين أن النبي-صلي الله عليه وسلم-قال:( أرسل الله -عز وجل- ملك الموتِ إلى موسى عليه السلام ، -موسي وهو يجلس في الدار والشباك مغلق والباب مغلق وجد واحد يقف أمامه داخل الدار يقول له أجب ربك أي أعطني روحك ، سيقتله -( فصك موسى عليه السلام عينيه )أي فقأ عينيه الاثنين ،( فصعد ملك الموت إلى ربه عز وجل وقال إنك أرسلتني إلى عبد لا يريد الموت ، فرد الله عز وجل عليه عينيه ثم قال له أنزل لعبدي فقل له آ الحياة تريد)-هل فعلت ذلك لكي تعيش- (فإن كنت تريد الحياة فضع يدك على متن ثور عجل حرك يدك عليه على ظهره أو على جلده( فلك بكل شعرة مستها يداك سنة) تعيشها ، فتصور إذا أردت أن تعد الشعر الذي بجلد العجل فكم يكون عدده ؟ سيكون مئات الألوف ، كل شعرة يدك تمسها لك بها سنة تعيشها ،( قال موسى: أي ربي ثم ماذا ؟)-بعد هذا العمر الطويل- ( قال: الموت ، قال : فالآن ).
الإنسان إذا لم يمرض أو نجا من الأعراض لا يوجد إلا المصيدة الأخيرة التي لابد أن يقع فيها كل إنسان ألا وهي الموت ونسأل الله عز وجل أن يقبضنا على ما يحب .
والرسول-صلي الله عليه وسلم -يقول: ( مُثِلَ بن أدم وإلى جنبه تسعٌ وتسعون منية إن أخطأته المنايا وقع في الهَرَمِ حتى يموت ) ربما يمرض ويقولون أنه سيموت وأوصي وبكوا عليه ويكون على وشك الموت سيموت مائة بالمائة والناس كلها يقولون أنه ميت ميت ثم فجأة يحيه الله سبحانه وتعالي ويعيش بعد ذلك عدة سنوات .
ضرب الشيخ -حفظه الله- مثلاً ًلمريض أصيب بمرضٍ خطير ثم شفاه الله.
وأنا أعرف رجلاً الطبيب الذي كان يعالجه وكان عنده مرض خطير فقال الطبيب هذا الرجل عمره بقي فيه ثلاثة أو أربعة أشهر ثم يموت ، واختفي هذا الرجل عن الطبيب وذهب إلى مكة وشرب من ماء زمزم فرفع الله عنه العلة وبعد حوالي ستة سنوات ذهب المريض ليرى الطبيب عندما دخل علي الطبيب وكان الطبيب يعرفه لأنه تردد عليه فترات طويلة ، عندما ما رآه الطبيب أُسقِطَ في يده ما هذا ؟ فالمريض يمزح وقال للطبيب يا دكتور أنا فكرتك مت لم أراك منذ فترة طويلة ولم أسمع صوتك فقال له الطبيب هل أنت مازلت تعيش فقال المريض الحمد لله أنا ذهبت وعملت عمرة وشربت من زمزم وهذا الذي قال فيه الطبيب لأهله أطعموه ما في نفسه كلها أشهر ويموت الرجل ، وكم من سقيم عاش حينًا من الدهر .
فنقول: تسع وتسعون منية ، - منية-معناها من المنايا من الموت أي أن كل عرض يرد على هذا الإنسان يساوي موته ومع ذلك يحيه الله سبحانه وتعالي ، إذا أفلت من هذه المنايا كلها أو الأعراض التي تؤدي إلى المنايا كلها في عرف الطب بقي الهرم وهو أن يرد إلى أرذل العمر ثم يموت.
نفهم من هذا أن أمل الإنسان أطول من عمره :وحديث بن مسعود الذي قاله النبي -صلي الله عليه وسلم ونحن سنمثله على الرسم لكي تعلم كيف جاءت المسألة ، لكن الرسول عليه الصلاة والسلام كما في حديث بن مسعود وكما في حديث أبي سعيد يمثل للصحابة .
النبي -عليه الصلاة والسلام- لما كان يخط خطوطًا على الأرض كان يقصد أن يتصور الناظر ما يريد من المعني وهذه أفضل طريقة للدعوة .
والنبي -عليه الصلاة والسلام- ذات مرة رسم للصحابة خطًا طويلاً على الأرض ورسم حوله خُطُطاً قِصارًا والصحابة كلهم ملتفون حوله ينظرون إلى الرسم على التراب ثم قال عليه الصلاة والسلام ( هذا صراط الله ) الطويل هذا -والطرق المعوجة حوله - قال :(هذه صُرُط الشياطين على كل صراط شيطان يدعوا إليه ).ثم تلا قوله تعالي:﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام:153] .
فالنبي -صلي الله عليه وسلم عندما يرسم على الأرض فيكون هناك نوع من التصور ، النبي عليه الصلاة والسلام رسم حديث بن مسعود على الأرض قال هذا الإنسان وهذا أمله وهذا أجله محيط به فانظر إلى هذا الرسم هذا المربع الذي بداخله الإنسان والمربع المحيط به هو أجله ، والخط الخارج من الداخل إلى الخارج هذا هو الأمل والخطوط القصار التي بالداخل تسمى بالأعراض التي هي الأمراض والمصائب والمشاكل وغير ذلك .
فالنبي -صلي الله عليه وسلم -نظر إلى هذا المربع وقال:(: هذا الإنسان وهذا أجله محيط به )فأين يذهب لا يستطيع أن يذهب يمينًا ولا يسارًا ، مربع مغلق ليس فيه أي فتحة يستطيع أن يهرب منها ، أجله محيط به والخط الطويل الذي يخرج قال:( وهذا أمله) خارج والخطوط التي في المنتصف قال:( هذه الأعراض إن نجا من هذا نهشه هذا وإن نجا من هذا نهشه هذا ...... إلى آخره .)
فالإنسان أجله محيط به:﴿ أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ﴾ [النساء: 78].