تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 3 رجب 1436هـ الموافق 21 أبريل 2015م
عدد الزيارات: 4259
قال ابن الجوزي رحمه الله «بالله عليك تذوق حلاوة المنهي فإنها شجرةٌ تثمرُ عزَ الدنيا وشرف الآخرة» وضربنا مثلاً لذلك بيوسف عليه السلام وكيف أنه لما ترك ما يشتهي، وعصمه الله سبحانه وتعالى، كيف صار له العز في الدنيا، وشهد الكل ببراءته، شهد الله عز وجل ببراءته، وشهد زوج المرأة، وشهدت المرأة، وشهدت النسوة، وشهد الشاهد من أهلها، بل وشهد الشيطان الرجيم ببراءة يوسف عليه السلام.وشهادة الشاهدين ببراءة يوسف عليه السلام.قال تعالي ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾،( (يوسف26)
وجه الدلالة من الآية:
1- أنه قدمها عليه في الذكر، سواءٌ كانت صادقةً أم كاذبة،.
2-أن الشاهد كان يتمنى أن تكون المرأةُ بريئة، وذلك أنه بدأ بقوله ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ﴾،( يوسف26) القبل مقدمة المرء وصدره.). فقدم ذكر القُبل وأخر ذكر الدُبر لأنه إذا كان هو المتهجم عليها لا شك أنه سيمزق ثيابها، بخلاف ما إذا قُدَّ قميصُه من دبر، هو يفر وهي التي تطلبه فجذبت قميصه ففتقته، .
الإنسان فيما يتعلق بالقرابة فإنه يميل إليهم ويتعصب لهم حتى لو كان في غير حق، وانظر إلى قول الله عز وجل فيما يتعلق بالحكم على القرابة أو للقرابة أو الحكم على الخصوم،.قال الله تبارك وتعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾، هذا فيما يتعلق بالشهادة للقرابة،.
ثم قال تعالى في سورة المائدة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾.
نلاحظ اختلافاً بين سياقي الآيتين :
الآية في سورة النساء ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ﴾.
وفي سورة المائدة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ﴾.
الفرق بين القيام بالقسط والشهادة لله:في سورة النساء :قدم القيام بالقسط على الشهادة لله، وفي سورة المائدة :قدم القيام لله على الشهادة بالقسط، الفرق بين الحالتين في سورة النساء قدم القيام بالقسط على الشهادة لله لأجل المحاباة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾, فهذه الشهادة إما للنفس، وإما للوالدين، وإما للأقربين، والمحاباة جانبها أضعف من الخصومة إذا غضب الإنسان على إنسان قد يصلُ بالافتراء عليه إلى أبعد ما أنت متصور، فكان يجب في هذه الحالة أن يكون هناك من يصد المرءَ عن الافتراء، لأن الافتراء يتناسب مع العصبية، ومع الغضب، ومع حظ النفس، بخلاف الشهادة للوالد، الإنسان قد يشهد لوالده ويؤنب نفسه .
مثال في باب المحاباة: أجرى والده تقريراً طبياً، ويحتاج شهادة الابن، فالابن قد يذهب وهو متأثم، ويعلم أن أباه ظالم لكن يمنعه الحياء أن يكذب والده، فأمره الله سبحانه وتعالى أن يقوم بالقسط وأن يحكم بالعدل وأن يشهد لله، .
في باب الغضب : الغضب سبعٌ إذا لم يكفَّه المرء افترسه. الإنسان -في لحظات الغضب- قد يقول الشيء الذي يندم عليه طيلة عمره .
قال الله عز وجل ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ﴾ لأن الذي يوقف المرءَ في حال الغضب هو تعظيمه لرب العالمين،.قال تعالى ﴿أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ﴾..........( الرعد33)(قائم) تفيد أن المرء إذا ذكر قيام الله عز وجل، واستحضر عظمة الله عز وجل، قلَّ كلُ شيء أمامه.
العز بن عبد السلام عندما ذهب إلى أيوب -حاكم مصر- في يوم تنصيبه ملكًا أو حاكمًا على مصر.
ذهب ليقوم بكلمة الحق، فاتكأ على غلامه وقال: "اذهب بنا لنقول كلمة حق"، ثم ناداه قال: "يا أيوب جعل الله لك ملك مصر وقد أبحت فيها الدعارة وأبحت القمار وفعلت وفعلت"، فقال له أيوب: "وأين ذاك يا سيدي؟! أنا ما فعلت هذا، هذا كان من زمان أبي"، قال: "أنت من الذين يقولون إنا وجدنا آبائنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون"، فقال أين هذا يا سيدي ، قال في المكان الفلاني والفلاني والفلاني، فأبطله أيوب. فلما انصرف العز مع تلميذه قال له: "أما خِفته؟- وأنت تتكلم بهذه الجرأة أمامه وهو ملك مصر، قال: "يا بني إني استحضرت عظمة الله في قلبي فرأيت السلطان قدامي كالقط".الشاهد : كلما عظم مقام الله عز وجل عند العبد كان كل شيء بجنبه يتلاشى، لهذا إذا كان العبد في فورة غضبه، وعنده إيمان وتعظيم لحرمات الله تبارك وتعالى، أوقفه التذكير بالله.
كما حدث لعمر ابن الخطاب -ت - لما قال عيينة بن حصن لابن أخيه الأحنف بن قيس قال: "أدخلني على هذا الأمير فإن لك وجهًا عنده"، فلما دخل عيينة على عمر قال: "هيئ يا بن الخطاب والله ما تعطينا الجزل ولا تحكم فينا بالعدل"، فغضب عمر غضبًا شديدًا حتى هم أن يقع به، فتلي عليه الأحنف قول الله عز وجل قال يا أمير المؤمنين: ﴿وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾، قال: "فو الله ما تجاوزها عمر وكان وقافًا عند كتاب الله".
قال تعالي﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ﴾( النساء135)
إذا فهمنا لماذا في حال الغضب قال الله عز وجل: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾(.المائدة8.).فالعادة أن النفس تميل في المحاباة إلى ذوات القرابة،كذلك فعل الشاهد،.
والشاهد في قصة يوسف عليه السلام لم يكن طفلاً كما يروى في بعض الروايات،.والحديث الذي ورد أن من جملة من تكلم في المهد شاهد يوسف، فهذا الحديث لا يصح من جهة الرواية.إنما كان شاهدًا كبيرًا ،كان رجلاً عاقلاً قال: ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ﴾ (يوسف26) فهذا يدل على رغبته وتمنيه براءة المرأة، ﴿فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ * فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾ (يوسف27 *28 )فتضافرت كل الشهود على براءة يوسف عليه السلام، فهذا هو عز الدنيا
فيوسف عليه السلام مُكِنَ له مرتين، .
التمكين الأول: لم يشعربه أحد لما دخل قلب العزيز،.. ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾.( يوسف21)
التمكين الثاني: لما صار على خزانة مصر وهو الأكثر شهرة .
لأن ما من إنسان يحتاج إلى ميرةٍ إلا كان يمر على يوسف عليه السلام، لأجل هذا قال له يوسف عليه السلام: ﴿اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ﴾( يوسف55).قال الله عز وجل ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾(يوسف21) هذا في الدنيا إذا الكف عن المنهي هي شجرة تورث عز الدنيا وشرف الآخرة، وشرف الآخرة في قوله تعالى ﴿وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ﴾. النحل41)
فالله سبحانه وتعالى أسأل أن يجعل ما قلته لكم زادًا إلى حسن المصير إليه وعتادًا إلى يمن القدوم عليه إنه بكل جميل كفيل وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى والحمد لله رب العالمين.