تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 25 محرم 1437هـ الموافق 8 نوفمبر 2015م
عدد الزيارات: 2234
البداية القوية تضمن النهاية السعيدة ، والعزمة الفتية تكفل دوام الصحة أعواما مديدة ، فلا بد من عزمة وقرار حاسم ووقفة محورية تعترف فيها ليس فقط أنك مريض ؛ بل وتعلن أنك في أمس الحاجة للدواء ، ويُرى ذلك في شدة انطلاقتك وحماستك ، وبدون هذه البداية تتعثَّر في النهاية بل قبل النهاية ، وصدق الشاعر إذ يقول :
فقسا ليزدجروا ومن يكُ حازما * فليقْسُ أحيانا على من يرحم
قد يقسو الأب على ابنه وهو صغير في سن التنشئة ليقيمه على الجادة ، ويغرس في نفسه منذ الصغر ما يجهل الطفل حكمته في صغره ولن يعرف قيمته إلا عند كبره ، وهذه القسوة هي عين الرحمة ، وهذه الغلظة من ورائها أرق المشاعر ، وإلا شاب الولد على ما شبَّ عليه ، وما شبَّ عليه ليس فيه من الأدب والذوق والأخلاق شيء ، أليس كذلك؟
فإن قلت : بلى ؛ سألتك : وهل أحد أحق بالرحمة من نفسك التي بين جنبيك؟! وهل أولى بالشفقة من روحك التي هي سر حياتك؟ فما بالك تؤدِّب ولدك وتهمل نفسك؟! وتعِظ غيرك وتنسى قلبك؟!
ومن التشديد صفاء الابتداء وقوة الانطلاق من أول خطوة. قال أبو عثمان الحيري : " من لم تصح إرادته ابتداء ؛ فإنه لا يزيده مرور الأيام عليه إلا إدبارا " .
ومن التشديد أخذ النفس بالعزم ، وعدم إرخاء الحبل لها والسماح لها بالتفلت والهرب ، وذلك بإلزامها من الطاعات ما يهذِّب سلوكها ويلين طبعها ، والإكثار عليها من النوافل حتى تذل طبيعتها الأمارة بالسوء وتستسلم للخير ، وهذا فعل الله وتشريعه ، ومثال ذلك : أن الله أمر الصحابة بصبر الواحد منهم إلى العشرة ثم خفَّف عنهم ذلك إلى الاثنين ، ومن ذلك أنه حرَّم على المسلمين الأوائل في الصيام إذا نام أحدهم أن يأكل بعد ذلك أو يجامع حتى اعتادته النفوس ثم خفَّف عنهم ، ومن ذلك أنه أوجب عليهم تقديم الصدقة بين يدي مناجاة رسوله فلما وطَّنوا على أمر الله خفَّفه عنهم ، ومن ذلك أنه فرض قيام الليل عاما كاملة لتعتاده النفس ثم نزلت آية التخفيف بجعله نافلة. قال ابن القيِّم : " وقد يفعل الملوك ببعض رعاياهم قريبا من هذا ، وقد يفعل بعض الحمَّالين قريبا من هذا فيزيدون على الحمل شيئا لا يحتاجون إليها ، ثم يحط تلك الأشياء فيسهل حمل الباقي عليهم " .
ومن التشديد قضاء الطاعة إذا فاتتك حتى لا تسترسل النفس في ترك الطاعة والتقصير ، فتعتاده ويصعب عليها المواظبة من بعد.
ومن التشديد تلقي الأمر للتنفيذ لأن لغة المواعظ وحدها لا تنفع ، بل لا بد من مزجها بصيغة الأمر والنهي ، واستقبال جرعات الشفاء بالامتثال والتسليم ، والحفاوة بها حفاوتك بمن طال غيابه عنك ثم أقبل لزيارتك ، لذا كان على سالك طريق الشفاء اليوم أن يتحلى بجوهرتين ثمينتين هما الجِدُّ والعزم ، ( والفرق بين الجِدِّ والعزم : أن العزم صدق الإرادة واستجماعها ، والجد صدق العمل وبذل الجهد فيه ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى بتلقى أوامره بالعزم والجد فقال : ﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾ [ البقره : 63 ] ، وقال : ﴿ وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ﴾ الأعراف : : 145 ، وقال : ﴿ يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ ﴾ [ مريم : 12 ] أي بجد واجتهاد وعزم لا كمن يأخذ ما أمر به بتردد وفتور) .
وقد يكون الأمر صعبا أن تجمع بين الجد والفهم كما جاء في شعر المتنبي :
وما الجمع بين الماء والنار في يدي * بأصعب من أن أجمع الجِدَّ والفهما
لكنه يسير على من يسَّره الله عليه ، قريب إلى من سعى إليه.
الهول المفزع
ومن هذا التشديد الشافي والتكليف المعافي ما رواه الحاكم في المستدرك من حديث بشير بن الخصاصية رضي الله عنه قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبايعه على الإسلام فاشترط عليَّ : « تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وتصلي الخمس ، وتصوم رمضان ، وتؤدي الزكاة ، وتحج البيت وتجاهد في سبيل الله ».
قال : قلت : يا رسول الله .. أما اثنتان فلا أطيقهما!! أما الزكاة فما لي إلا عشر" ذود " - أي : عشر رؤوس من الإبل- هُنَّ رسل أهلي وحمولتهم!! وأما الجهاد فيزعمون أنه من ولى - أي هرب من المعركة- فقد باء بغضب من الله ، فأخاف إذا حضرني قتال كرهت الموت وخشعت نفسي. قال : فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حرَّكها ، ثم قال : « لا صدقة ولا جهاد فبم تدخل الجنة ؟! » .
قال بشير : ثم قلت : يا رسول الله .. أبايعك فبايعني عليهن كلهن .
والفائدة : لا بد من جهد .. لا بد من عطاء ، ولا بد من بذل .. لا بد من فداء ، إنها شروط النجاة لا شروط سُكنى الفراديس ، وسمات المسلم العامي لا المسلم المجاهد ، إنها أساسيات الدين ومتطلبات العقيدة ونفقات دخول الجنة ، ولو كنت تعيش في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وواجهك هذه المواجهة لصدمك رده عليك كما سبق وصدم بشيرا وهزه ، لكنها صدمة لازمة وهزة شافية ووقفة مؤلمة تدفعك إلى مراجعة شريط حياتك لتنظر ما دفعت من ثمن لتشتري الجنة ، فبين جنبات هذا الحديث جرعة هامة من جرعات الدواء ولمحة من لمحات الشفاء.
أخي .. افهمني!! السلعة واحدة ، والثمن واحد ، وما كان الله ليحابي قوما على حساب آخرين ، فتكون السلعة رخيصة لنا وغالية على غيرنا.
يرحمك الله!!
ولأن ديننا دين العزم والقوة ولا مجال فيه للكسل روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله يحب العطاس ويكره التثاؤب ، فإذا عطس أحدكم وحمد الله كان حقا على كل مسلم سمعه أن يقول : يرحمك الله ، فأما التثاؤب فإنما هو من الشيطان ؛ فإذا تثاءب أحدكم فليرده ما استطاع ، فإن أحدكم إذا تثاءب ضحك منه الشيطان ». رواه البخاري ، وفي رواية لمسلم : « فإن أحدكم إذا قال : ها .. ضحك الشيطان منه » .
لما كان التثاؤب مما يُرضي الشيطان ؛ أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينفِّرك منه قدر المستطاع ويحذرك من الوقوع فريسة لمثبِّطات العزم ومقدِّماته ، وأما العطاس فعلى العكس من ذلك ؛ هو نعمة ربانية جاءت لتوقظك وتنشِّطك إلى العمل ، لذا كان على العاطس أن يحمد الله ، وكان حقا على من كل سمعه من المسلمين أن يشاركه الفرحة بهذه الصحوة التي جاءته من غير سعي منه أو ترتيب ، فيدعو له بالرحمة.
رأى الجنيد هرة تسعى وراء فأر ؛ فدخل الفأر جحره وبقيت هي أمام الجحر تترقَّب ، وكل شعرة من جسدها واقفة تعلن النفير ، مستحضرة أعلى درجات العزم والتوثب ، فخطر للجنيد خاطر استحال خاطرة جاء فيها :
" يا مسكين .. ألم تحصِّل في الهرة درجة هرة؟! وإذا حصَّلت .. أيكون مطلوبك كمطلوبها؟! ".
أنت طالب جنة وهي طالبة لقمة وهمتها أعلى من همتك!! أنت طالب شفاء وهي طالبة عناء ومع ذلك عزمها أشد وأصدق!! أنت تسعى لباقٍ وهي تسعى لفانٍ ومع هذا تغلبك؟! قطة هجرت الكسل وهبَّت إلى العمل وأنت نائم في بيتك يا بطل؟!