تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 25 محرم 1437هـ الموافق 8 نوفمبر 2015م
عدد الزيارات: 2083
\
طالب الشفاء اليوم لا ينال مراده بعبادة يوم وليلة ، بل لا بد من مداومة ، وقد تبين في حديث العسل أن المريض لم يجد أثر الدواء حتى تناول ثلاث جرعات ، وليس ذلك في أمراض الأبدان فحسب بل في أمراض القلوب كذلك ، فالنفس لا تقبل أثر الطاعة ولا تتشرب فائدتها إلا بعد مدة ومواظبة عليها ، ذلك أن عقبة البدء كؤود ، يصعِّبها الشيطان عليك ، ويضع أمامك الحواجز والمثبطات ، لكن مع البدء وبداية تسلل الإيمان إلى القلب ، وانتشار حلاوته في الروح ، تلين القلوب للطاعة ويستنير الصدر للإنابة ، وصدق ابن الجوزي حين قال : " إذا استقام للجواد الشوط لم يُحوِج راكبه إلى السوط " .
وضرب لنا أبو حامد الغزالي مثلا ليقنع كل يائس من الشفاء بجدوى المحاولة وحتمية الشفاء إذا جدَّ في السعي ، وقلَّد الصالحين الذين جاهدوا ( وفعلوا بها ما يُفعل بالبازي إذا قُصِد تأديبه ونقله من التوثُّب والاستيحاش إلى الانقياد والتأديب ، فإنه يُحبس أولا في بيت مظلم ، وتُخاط عيناه حتى يحصل به الفطام عن الطيران في جو الهواء ، وينسى ما قد كان ألِفه من طبع الاسترسال ، ثم يرفق باللحم حتى يأنس بصاحبه ويألفه إلفا إذا دعاه أجابه ، ومهما سمع صوته رجع إليه ، فكذلك النفس لا تألف ربها ، ولا تأنس بذكره إلا إذا فُطِمت عن عادتها بالخلوة والعزلة أولا ؛ ليحفظ السمع والبصر عن المألوفات ، ثم عُوِّدت الثناء والذكر والدعاء ثانيا في الخلوة حتى يغلب عليها الأنس بذكر الله عز وجل عوضا عن الأنس بالدنيا وسائر الشهوات ، وذلك يثقل على المريد في البداية ، ثم يتنعم به في النهاية ؛ كالصبي يفطم عن الثدي ، وهو شديد عليه إذا كان لا يصبر عنه ساعة ، فلذلك يشتد بكاؤه وجزعه عند الفطام ، ويشتد نفوره عن الطعام الذي يُقدَّم إليه بدلا عن اللبن ، ولكنه إذا مُنِع اللبن رأسا يوما فيوما وعظم تعبه في الصبر عليه وغلبه الجوع تناول الطعام تكلفا ، ثم يصير له طبعا ، فلو رُدَّ بعد ذلك إلى الثدي لم يرجع إليه ، فيهجر الثدي ، ويعاف اللبن ، ويألف الطعام ، وكذلك الدابة في الابتداء : تنفر عن السَّرج واللجام والركوب ؛ فتُحمل على ذلك قهرا ، وتُمنَع عن السرج الذي ألفته بالسلاسل والقيود أولا ، ثم تأنس به بحيث تترك في موضعها ، فتقف فيه من غير قيد ، فكذلك تُؤدَّب النفس كما تؤدَّب الطير والدواب ) .
إن النفس إذا وجدت لذة العبادة ، وأحست بأثر جرعات الدواء بدد فيها نور اليقين ظلام المادة ، وأطفأ برد العفو نار الذنب ، كالرضيع الذي يستغني عن اللبن بألوان الأطعمة المختلفة ليزهد بعدها في ثدي أمه ، والمعنى أنك كلما تناولت جرعة دواء زادت سرعة سيرك ، وانتفض قلبك وكأنما نشط من عقال ؛ ذلك أن المسافر إذا عاين البلد التي يريد دخولها أسرع واستحث دابته على السير بغير ما كانت عليه عند بدايات سفره والهدف عنه غائب ، وكذلك القلب إذا ذاق حلاوة الإيمان ووجد أثر العافية صار أقوى عزما وأشد قوة لقربه من غايته وتلمح قلبه لأنوار ما سعى إليه.