تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 1 ذو القعدة 1436هـ الموافق 16 أغسطس 2015م
عدد الزيارات: 3354
الحمد لله الذي ارتفع فوق العالمين ذاتاً وقدراً.. وتمجد فوق خلقه وعلاهم عزة وقهراً.. وأمر بإعمال التدبر في آياته ومخلوقاته قلباً وفكراً فصارت قلوب الطالبين في بيداء كبريائه حيرى .. كلما اهتزت لنيل مطلوبها ردتها سُبحات الجلال قسراً .. وإذا همت بالانصراف آيسة نوديت من سرادقات الجمال صبراً صبراً.. ثم قيل لها أجيلي في ذل العبودية منك فكراً.. وإن طلبتِ وراء الفكر في صفاتكِ أمراً..فانظري في نعم الله تعالى وأياديه كيف توالت عليكِ تترى.. وجددي لكل نعمة منها ذكراً وشكراً.. وتأملي في بحار المقادير كيف فاضت على العالمين خيراً وشراً ونفعاً وضراً وعسراً ويسراً وفوزاً وخسراً وجبراً وكسراً وطياً ونشراً وإيماناً وكفراً وعرفاناً ونكراً.. ، والحمد لله الذي جعل لنا فيما خلق تفكراً وأمراً عظيماً وأنعامه تتوالى علينا وتترى .. والصلاة على محمد سيد ولد ابن آدم وإن كان لم يعد سيادته فخراً.. صلاة تبقى لنا في عرصات القيامة عدة وذخراً.. وعلى آله وصحبه الذين أصبح كل واحد منهم في سماء الدين بدراً.. ولطوائف المسلمين صدراً.. وسلم تسليماً كثيراً.. أما بعد..
فإن التفكر من أعمال القلوب العظيمة وهو مفتاح الأنوار ومبدأ الإبصار و شبكة العلوم والفهوم وأكثر الناس قد عرفوا فضله ولكن جهلوا حقيقته وثمرته و قليل منهم الذي يتفكر ويتدبر وقد أمر الله تعالى في التفكر والتدبر في كتابه العزيز في مواضع لا تحصى و أثنى على المتفكرين فقال:{ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً }.
وقال عطاء انطلقت يوماً أنا وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها فكلمتنا وبيننا وبينها حجاب فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا؟ قال: قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : {زر غبّاً ؛ تزدد حبّاً}، قال ابن عمير: فأخبرينا بأعجب شيء رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فال فبكت، وقالت: كل أمره كان عجباً، أتاني في ليلتي ثم قال: ذريني أتعبد لربي عز وجل فقام إلى القربة فتوضأ منها ثم قام يصلي فبكى حتى بل لحيته ثم سجد حتى بل الأرض ثم اضطجع على جنبه حتى أتاه بلال يؤذنه بصلاة الصبح ، فقال: يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر..فقال: لقد أنزلت عليّ الليلة آيات ويلٌ لمن قرأها ولم يتدبر فيها أو كما قال عليه الصلاة والسلام {إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب} ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها. [الحديث صححه الألباني رحمه الله في السلسلة الصحيحة].
وعن محمد بن واسع أن رجلاً من أهل البصرة ركب إلى أم ذر بعد موت أبي ذر فسألها عن عبادة أبي ذر فقالت : "كان نهاره أجمع في ناحية البيت يتفكر".
قال الحسن:" تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
قال الفضيل:" الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك".
قيل لإبراهيم إنك تطيل الفكر فقال:" الفكرة مخ العقل".
وكان سفيان بن عيينة كثيراً ما يتمثل بقول القائل: "إذا المرء كانت له فكرة؛ ففي كل شيء له عبرة" .
وقال الحسن: "من لم يكن كلامه حكمة فهو لهو، و من لم يكن سكوته تفكراً فهو سهو، ومن لم يكن نظره اعتباراً فهو لهو".
وفي قوله تعالى : {سأصرف عن آياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق} قال : أمنع قلوبهم التفكر في أمري .
وكان عدد من أهل العلم والحكمة يطيلون الجلوس والتفكر.
وقال عبد الله بن المبارك يوماً لسهل بن عدي لما رآه ساكتاً متفكراً: أين بلغت؟قال: الصراط!
وقال بشر :" لو تفكر الناس في عظمة الله ما عصوا الله عز وجل".
وقال ابن عباس: "ركعتان مقتصدتان في تفكر خيرٌ من قيام ليلة بلا قلب".
وبينما كان أبو شريح يمشي إذ جلس فتقنع بكسائه فجعل يبكي فقيل له ما يبكيك؟ قال:" تفكرت في ذهاب عمري وقلة عملي واقتراب أجلي".
وقال أبو سليمان: "عودوا أعينكم البكاء وقلوبكم التفكر".
وقال:" الفكر في الدنيا حجاب عن الآخرة و عقوبة لأهل الولاية، والفكر في الآخرة يورث الحكمة ويحي القلوب. ومن الذكر يزيد الحب ومن التفكر يزيد الخوف".
وقال ابن عباس: "التفكر في الخير يدعو إلى العمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه. وإذا كان هم العبد وهواه في الله عز وجل جعل الله صمته تفكراً وكلامه حمداً" .
وقال الحسن:"إن أهل العقل لم يزالوا يعودون بالذكر على الفكر ، وبالفكر على الذكر حتى استنطقوا قلوبهم فنطقت بالحكمة".
وكان داود الطائي رحمه الله على سطح في ليلة قمراء فتفكر في ملكوت السموات والأرض وهو ينظر إلى السماء ويبكي حتى وقع في دار جار له، فوثب صاحب الدار من فراشه وبيده سيف ظن أنه لصّ، فلما نظر إلى داود رجع ووضع السيف وقال من ذا الذي طرحك من السطح ، قال: ما شعرت بذلك.
وأشرف المجالس وأعلاها الجلوس مع الفكرة في التأمل في أسماء الله وصفاته، وجنته وناره ، و نعيمه وعذابه ، وآخرته وآلائه وآياته المسطورة في كتابه والمنثورة في كونه وما خلق سبحانه و تعالى ، وما ألذ هذه المجالس وما أحلاها وما أطيبها لمن رزقها، وقال الشافعي رحمه الله: استعينوا على الكلام بالصمت وعلى الاستنباط بالفكر. وكان الشافعي رحمه الله : من أقوى الناس عقلاً وأجودهم استنباطاً، ومن القلائل الذين مروا في الأمة الإسلامية بهذه المنزلة، وقال أيضاً: صحة النظر في الأمور نجاة من الغرور والعزم على الرأي سلامة من التفريط والندم والفكر يكشفان عن الحزم والفطنة و مشاورة الحكماء ثبات في النفس وقوة في البصيرة ، ففكر قبل أن تعزم وتدبر قبل أن تهجم وشاور قبل أن تقدم.
وقال أيضاً : الفضائل أربع، إحداها الحكمة وقوامها الفكرة والثانية العفة وقوامها التغلب على الشهوة والثالث القوة و قوامها التغلب على الغضب ، والرابعة العدل وقوامه في اعتدال قوى النفس.
التفكر لغة: مأخوذ من مادة- ف ك ر -التي تدل كما يقول ابن فارس رحمه الله من علماء اللغة : على تردد القلب في الشيء، يقال تفكر إذا ردد قلبه معتبراً، ولفظ التفكر مصدر، وفكر مصدرها التفكير ، والفكر هو التأمل وإعمال الخاطر في الشيء، فالتفكر هو تصرف القلب في معاني الأشياء لدرك المطلوب..
أما التفكر الشرعي فقد قال ابن القيم رحمه الله قاعدة جليلة: أصل الخير والشر من قبل التفكر فإن الفكر مبدأ الإرادة والطلب في الزهد والترك والحب والبغض وأنفع الفكر؛ 1- الفكر في مصالح المعاد ..2-وطرق اجتلابها ..3- وفي دفع مفاسد المعاد.. 4- و في طرق اجتنابها..،فهذه أربعة أفكار هي أجل الأفكار ويليها أربعة ..1- فكر في مصالح الدنيا..2- وطرق تحصيلها.. 3- وفكر في مفاسد الدنيا.. 4- وطرق الاحتراز منها، فعلى هذه الأقسام الثمانية دارت أفكار العقلاء.
قال: ورأس القسم الأول الفكر في آلاء الله ونعمه وأمره ونهيه وطرق العلم به وبأسمائه وصفاته من كتابه وسنة نبيه وما والاهما، وهذا الفكر يثمر لصاحبه المحبة والمعرفة فإذا فكر في الآخرة وشرفها ودوامها وفي الدنيا وخستها وفنائها يثمر له ذلك الرغبة في الآخر ة والزهد في الدنيا، وكلما فكر في قصر الأمل وضيق الوقت أورثه ذلك الجد والاجتهاد وبذل الوسع في اغتنام الوقت .
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى التفكر في كتابه مقروناً بذكر الأمثال والنعم و المخلوقات وكذلك ما نراه في هذا الكون من قدرته عز وجل وهذه بعض الآيات التي فيها الأمر بالتفكر أو مدح المتفكرين أو أنه خلق أشياء للمتفكرين..
1- { أيود أحدكم أن تكون له جنة من نخيل وأعناب تجري من تحتها الأنهار له فيها من كل الثمرات وأصابه الكبر وله ذرية ضعفاء فأصابها إعصار فيه فاحترقت كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون} فهذا الرجل قلبه متعلق بالبستان من حيث:
أ- أنه جنة وليس مزرعة صغيرة.
ب- أن فيها أشجار متنوعة .. نخيل وأعناب.
ج- أن فيها أشجار نفيسة وأعلاها قيمة وقدراً.. النخيل والأعناب.
د- أن الماء الذي في هذه الجنة لا يستخرج من الآبار بالمجهود الكبير بل إن هناك أنهار تجري في هذه الجنة.
ه- أصابه الكبر.. والإنسان إذا أصابه الكبر يحتاج إلى شيء يعود إليه بالمال دون أن يتعب فيه كثيراً.
و- له ذرية ضعفاء صغار مرضى فهو يخشى أن يموت والأولاد أين مصدر رزقهم.. لا يوجد إلا هذه الجنة.
فدرجة تعلقه بهذه الجنة كبير جداً، فكيف يكون شعوره وخيبة أمله والإحباط إذ أصابها إعصار فيه نار فاحترقت..؟..كبير جداً..، فكر لماذا ضرب المثل ولأي شيء ساق هذا المثل..؟
إنه مثل ضربه الله للذي يعمل أعمالاً كثيرة.. صدقات وغيرها ولكنه يرائي..، يوم القيامة يأتي في غمرة الأهوال وهو محتاج إلى كل حسنة فيرى أعماله التي عملها في الدنيا وأمامه النار من تلقاء وجهه والشمس دانية من رأسه وفي العرق والصراط مضروب على جهنم ولا ينجو إلا بعمل صالح فجعل الله أعماله كلها هباءً منثوراً في وقت هو أحوج ما يكون إلى الحسنات فكيف يكون إحباطه وذله وخيبة أمله في ذلك الوقت..، ما الذي ينشئ الانقياد والسعي للإخلاص في العمل؟ التفكر في مثل هذه الآيات..
2- { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته وما للظالمين من أنصار}.
3- {إنما مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض مما يأكل الناس والأنعام حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلاً أو نهاراً فجعلناها حصيداً كأن لم تغنَ بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون}.
4- { الله الذي رفع السموات بغير عمدٍ ترونها ثم استوى على العرش و سخر الشمس والقمر كلٌ يجري لأجل مسمى يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون، وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهاراً ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين يغشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون}.
5- {هو الذي أنزل من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون، وسخر لكم الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون، وما ذرأ لكم في الأرض مختلفاً ألوانه إن في ذلك لآية لقوم يذكرون ، وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحماً طرياً وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وترى الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}.
6- { وما أرسنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون بالبينات والزبر وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم ولعلهم يتفكرون}،يتفكرون في القرآن والتبيان السنة ، فيتفكرون في القرآن والسنة.
7- { أولم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها وجاءتهم رسلهم بالبينات فما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون }إذاً التفكر في النفوس والتفكر في مصائر الأقوام البائدة مجال آخر للتفكر.
8- { لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون، لو أنزلنا هذا القرآن على جبلٍ على لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون}. فليتفكر الإنسان في هذا القرآن وقوته لو أنزل على جبل لانهدّ فماذا ينبغي أن يكون أثره على نفسه؟
والنبي صلى الله عليه وسلم علّمنا التفكر لما قام من الليل ينظر في السماء ويقرأ ، فقراءة الآيات من سورة آل عمران في الليل سنة قبل صلاة الليل ، وهذه من السنن المهجورة، إذا قام من النوم يمسح النوم عن عينيه كما ورد في السنة ثم يقرأ { إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }في البخاري عن ابن عباس بعد أن قرأ الآية صلى الله عليه وسلم ثم قام فتوضأ واستنّ فصلى ركعتين ثم خرج فصلّى الصبح، فلذلك على أحد القولين قراءتها قبل الخروج لصلاة الصبح وقبل الوضوء وقبل سنة الفجر..والقول الآخر قبل قيام الليل.
وفائدة التفكر تكثير العلم واستجلاب المعرفة لأنه إذا اجتمع في القلب اجتمعت المعلومات الأساسية وازدوجت على ترتيب مخصوص أثمرت معرفة أخرى، فالمعرفة نتاج المعرفة ، فإذا حصلت معرفة أخرى وازدوجت مع معرفة أخرى حصل نتاج آخر!..فالعلماء من أين أنتجوا انتاجهم وأحاكم الفقه والأحكام المستنبطة والتفسير..؟ جزء كبير خرج من التأمل في آيات الله والتأمل في الأحداث والوقائع..!
الأمور المشكلة والمستعصيات كيف حُلّت..؟!
أبو حنيفة قالوا له هذا شخص وهذا أخوه عقدنا لهما على أختين لما صارت الدخلة بالخطأ دخل الأخ الأول على زوجة الثاني ودخل الأخ الثاني على زوجة الأول و وطئها تلك الليلة و لم يكتشفوا ذلك إلا في الصباح ، الحل يحتاج لتفكر وتدبر ، تعال يا فلان هل أعجبتك المرأة التي دخلت بها؟ رضيت بها؟ نعم، وأنت يافلان؟ نعم، يا فلان طلق فلانة التي عقدت عليها ويا فلان طلق فلانة ثم عقد لكل منهم على الأخرى!
الجمع بين النصوص كيف حُلّت..؟!
كيف نجمع بين { لا تزر وازرة وزر أخرى} و (الميت يعذب ببكاء أهله عليه)(بما نيح عليه)..؟!!
فيفكر العلماء .. يقولون هذا خاص بالكافر مثلاً ..هذا إذا كان راضياً بالنياحة و هو يعلم بما يفعلون بالعادة و لم ينههم قبل موته..وهكذا..
من وسائل زيادة الإيمان التفكر في آيات الله في الكون.. في الآفاق .. في النفس.. { أولم يتفكروا في أنفسهم } .. فيما خلق الله..، فهذه الميادين في التفكر مهم جداً للإنسان المسلم والتفكر رأس المال وينتج بضاعة عظيمة جداً..
فالثمرة الخاصة للتفكر العلم.. وإذا حصل العلم في القلب تغير حال القلب.. وإذا تغير حال القلب تغيرت أعمال الجوارح ..، فالعلم تابع للفكر فالفكر هو المبدأ ينتج علماً والعلم ينتج حال في القلب من الخشية والإحساس بالتقصير في حق الله والرغبة والجد .. ينتجها العلم فيؤدي إلى زيادة أعمال الجوارح لأن القلب يأمر الجوارح بالعمل..، فيصلح الإنسان ويعلو شأنه ويتحسن حاله من نتيجة التفكر..
محبة الله تحصل من التفكر في النعم..لأن النفس مجبولة على محبة من أحسن إليها..وكذلك فإن التفكر وسيلة لفهم الشر يعة و وسيلة للفقه في الدين ( ومن يرد الله به خيراً يفقهه في الدين).. وهكذا تحصل البصيرة بالتفكر..
التفكر في النفس ماهو..؟
يشمل أن يتفكر في خلق الله كيف خلق نفس الإنسان وجسده، والتفكر في النفس أيضاً يشمل التفكر في عيوبها وهذا مهم جداً جداً جداً ولا يمكن عمل تقويم وتصحيح وتعديل وتحسين إلا بعد التفكر ، وإذا كان فكره صحيحاً عرف العيوب واكتشف الأخطاء وبالتالي يمتنع عن الوقوع فيما وقع فيه سابقاً من الأخطاء ويجتهد في تحصيل ما يستر به عيوب نفسه .. غضب شديد .. حاد الطبع .. عجول.. متهور .. عصبي.. جبان .. خواف.. ظلوم .. معتدي.. باغي.. متعدي .. يفري بلسانه في أعراض الخلق.. وهكذا..، كذلك يفكر في حال عائلته وأسرته وأولاده كيف يحسن من أحوالهم ما هي الثغرات فيه؟
لو أردنا أن نصلح أحوال المسلمين ..المصلحين الكبار والمجددين الذين مروا على العالم الإسلامي ماذا فعلوا؟.. بالتأكيد أول ما فعلوا هو النظر في حال المسلمين.. ماذا ينقصهم؟ أين الخلل؟ ما هي الثغرات؟..ثم شمروا في تحصيل أسباب القوة والارتقاء بحال المسلمين و سد الثغرات.. جهل ..شرك.. معاصي..
ومن التفكر.. التفكر في خلق الله تعالى.. فإن فيه من العجائب والغرائب الدالة على حكمة الله وقدرته وجلاله شيء يهون الناظرين والمتفكرين والموجودات منقسمة إلى أشياء معروفة و غير معروفة..، ومجال العلم التجريبي والدنيوي أن يكتشف الأشياء غير المعروفة وهي موجودة مما خلق الله عز وجل { ويخلق مالا تعلمون}..{سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض ومن أنفسهم ومما لا يعلمون}..{ وننشئكم فيما لا تعلمون}..فمالا نستطيع أن نعرفه فلا يمكن إضاعة الوقت في استكشافه وهذا من الفروق في النظرة الإسلامية والغربية في قضايا المستكشفات والمخترعات..، مثلاً ما صحة القيام بما يسمى <أبحاث الروح>؟.. لو هناك عالم طبيب مسلم وآخر كافر.. مالفرق؟ .. المسلم يعلم أنه لا سبيل لمعرفة أي شيء في موضوع الروح زيادة عما ورد في الكتاب والسنة فلا حاجة لإضاعة الوقت لأنه يعلم {قل الروح من أمر ربي}، الكافر.. لا .. ما عنده منطلقات وقواعد ممكن أن يبذل 50 سنة من عمره في التجارب وبلا فائدة..!، حتى الدخول في العوالم الغيبية و عمل التجارب على الملائكة مثلاً..!
لذلك فمجال التفكر في الموجودات التي نعلمها من جهة الاستكشاف العلمي الدنيوي المقدور عليه..، وغير المقدور عليه لا يمكن ندخل فيه، وهناك أشياء موجودة لا يمكن معرفة تفاصيلها إلا من الوحيين ( مثل معرفة الملائكة والجنة وما بعد الموت) فالتفكر فيها يكون منطلقاً فقط من النصوص الشرعية.. ، أما قضايا الدنيا .. علم الأجنة .. والنجوم.. مثلاً وكالة ناسا أطلقت مناظير و مسبارات..أو في أعماق البحار و قيعان المحيطات.. تنظر فيها تتأمل في ملكوت الله و خلقه..، تبقى الأشياء القطعية حتى في الأمور الدنيوية وهي ما جاء الكتاب والسنة مثل من كل شيء زوجين اثنين.. وهكذا..
قال بعض العلماء من 1000 سنة : فمن آياته الإنسان المخلوق من نطفة و أقرب شيء إليك نفسك وفيك من عجائب الله الدالة على عظمة الله تعالى ما تنقضي الأعمار في الوقوف على عشر عشيره وأنت غافل عنه فيا من هو غافل عن نفسه وجاهل بها كيف تطمع في معرفة غيره و قد أمرك الله في التدبر في نفسك في كتابه العزيز فقال: {وفي أنفسكم أفلا تبصرون} وذكر أنك مخلوق من نطفة قذرة فقال: { قتل الإنسان ما أكفره ، من أي شيء خلقه، من نطفة خلقه فقدره ، ثم السبيل يسره}، و قال: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون}، وقال: { ألم يك نطفة من مني يمنى ثم كان علقة فخلق فسوى} ، وقال: {ألم نخلقكم من ماء مهين، فجعلناه في قرار مكين، إلى قدر معلوم}{أولم يرى الإنسان أنا خلقناه من نطفة فإذا هو خصيم مبين} {إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج } ثم ذكر كيف جعل النطفة علقة والعلقة مضغة والمضغة عظاماً كما قال سبحانه : {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ... الآية} فتكرير ذكر النطفة في الكتاب العزيز ليس ليُسمَع لفظه ويترك التفكر في معناه..!
انظر إلى النطفة وهي قطرة من الماء قذرة لو تُرِكت ساعة ليضربها الهوا ء فسدت وأنتنت كيف أخرجها رب الأرباب من الصلب والترائب؟و كيف جمع بين الذكر والأنثى وألقى الألفة والمحبة في قلوبهم؟ وكيف قادهم بسلسلة المحبة والشهوة إلى الاجتماع وكيف استخرج النطفة من الرجل بحركة الوقاع وكيف استجلب دم الحيض من أعماق العروق و جمعه في الرحم ثم كيف خلق المولود من النطفة وسقاه بماء الحيض وغذاه حتى نما وربا و كيف جعل النطفة وهي بيضاء مشرقة علقة حمراء ثم كيف جعلها مضغة ثم كيف قسم أجزاء المضغة و هي متساوية متشابهة إلى العظام والأعصاب والعروق والأوتار واللحم ثم كيف ركب من اللحوم والأعصاب والعروق الأعضاء الظاهرة، فدوّر الرأس وشقّ السمع والبصر و الأنف والفم وسائر المنافذ ثم مد اليد والرجل وقسم رؤوسها بالأصابع وقسم الأصابع بالأنامل، ثم كيف ركب الأعضاء الباطنة من القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والرحم والمثانة والأمعاء، كل واحد على شكل مخصوص، ومقدار مخصوص ، لعمل مخصوص، ثم كيف قسم كل عضو من الأعضاء بأقسام أخر، فركب العين من سبع طبقات لكل طبقة وصف مخصوص وهيئة مخصوصة لو فقدت طبقة منها أو زالت صفة من صفاتها تعطلت العين عن الإبصار وهكذا..
فانظر الآن إلى العظام وهي أجسام صلبة قوية كيف خلقها من نطفة سخيفة رقيقة ثم جعلها قواماً للبدن و عماداً له ثم قدرها بمقادير مختلفة و أشكال مختلفة فمنه صغير وكبير وطويل مستدير و مجوف ومصمت وعريض ودقيق ولما كان الإنسان محتاج إلى الحركة بجملة بدنه وببعض أعضائه لم يجعل عظمه عظماً واحداً بل عظاماً كثيرة بينها مفاصل حتى تتيسر بها الحركة وقدر شكل كل واحدة منها على وفق الحركة المطلوبة بها ثم وصل مفاصلها وربط بعضها ببعض بأوتار أنبتها من أحد طرفي العظم وألصقه بالعظم الآخر كالرباط له ثم خلق في أحد طرفي العظم زوائد خارجة منه وفي الأخرى حفراً غائصة فيه موافقة لشكل الزوائد لتدخل فيها و تنطبق عليها فصار العبد إن أراد تحريك جزء من بدنه لم يمتنع عليه ولولا المفاصل لتعطل عليه ذلك.. < فلتلك النعمة العظيمة ( على كل سلام من أحدكم صدقة) 360 مفصل تجزيء عنها ركعتي الضحى>..فلننظر كيف خلق عظام الرأس وكيف جمعها وركبها وقد ركبها من 55 عظم مختلفة الأشكال والصور فألف بعضها إلى بعض بحيث استوى به كرة الرأس كما ترى ، وليس المقصود من ذكر أعداد العظام أن يعرف عددها فإن هذا علم قليل يعرفه الأطباء والمشرحون إنما الغرض أن ينظر في مدبرها وخالقها كيف قدرها ودبرها وخالف بين أشكالها وأقدارها وخصصها بهذا العدد المخصوص لأنه لو زاد عليها واحداً لكان وبالاً على الإنسان يحتاج إلى قلعه ولو نقص منها واحداً لكان نقصاناً يحتاج إلى جبره، فالطبيب ينظر فيها ليعرف وجه العلاج في جبرها ، وأهل البصائر ينظرون فيها ليستدلوا على جلالة خالقها ومصورها فشتّان بين النظرين..، وكذلك التفكر في أمر هذه الأعصاب والعروق والأوردة والشرايين و عددها ومنابتها وانشعابها فانظر الآن إلى ظاهر الإنسان وباطنه، فترى به من العجائب والصنعة ما يقضى به العجب وكل ذلك صنعه الله في قطرة ماء قذرة، فترى من هذا صنعه في قطرة ماء فما صنعه في ملكوت السموات وكواكبه؟ وما حكمته في أوضاعها و أشكالها ومقاديرها وأعدادها واجتماع بعضها وتفرق بعضها واختلاف صورها وتفاوت مشارقها ومغاربها..؟فلا تظنن أن ذرة من ملكوت السموات تنفك عن حكمة بل هي أحكم خلقاً وأتقن صنعاً { أءنتم أشد خلقاً أم السماء بناها}{ لخلق السموات والأرض أكبر من خلق الناس}، فارجع الآن إلى النطفة وتأمل حالها أولاً وما صارت إليه ثانياً وتأمل أنه لو اجتمعت الجن والإنس على أن يخلقوا للنطفة سمعاً أو بصراً أو عقلاً أو قدرة أو علماً أو روحاً أو يخلقوا فيها عظماً أو عرقاً أو عصباً أو جلداً أو شعراً ..هل يقدرون على ذلك؟ بل لو أرادوا أن يعرفوا كنه حقيقته لربما عجزوا عن بعضه!< والذي يعملونه في الاستنساخ هو تلاعب بخلق الله {ولآمرنّهم فليغيرنّ خلق الله}وحتى الذبابة فلا يستطيعون أن يخلقوها من عدم فصارت قمة تطورهم الطبي التلاعب في الخلق، وزرع بويضة ملقحة لإنسان في قرد أو كلب و زرع بويضة ملقحة لكلب في رحم امرأة..هذه هي التجار ب الطبية>فالعجب منك لو نظرت إلى صورة إنسان مصوّر على حائط، تأنّق النقاش في تصويرها حتى قرب ذلك من صورة الإنسان وقال الناظر إليها كأنه إنسان، تعجبت من صنعة النقاش وحذقه وخفة يده وتمام فطنته وعظم في قلبك محله مع أنك تعرف أن تلك الصورة إنما تمت بالصبغ والقلم واليد وأن كل ما فعله أنه جعل الصبغ على هذا الحائط على ترتيب مخصوص وأنت تستعجب من النقاش والرسام فكيف بالذي جعل من النطفة القذرة التي كانت معدومة فخلقها في الأصلاب والترائب وأخرج منها هذا الشكل الحسن وقدرها فأحسن تقديرها وصورها فأحسن تصويرها ورتب عروقها وأعصابها وجعل لها مجاري لغذائها ليكون ذلك سبب بقائها وجعل البطن حاوياً لآلات الغذاء والرأس جامعاً للحواس وهكذا جعل في الأذنين وجعل في الأنف حاسة الشم ليستدل صاحبه باستنشاق الروائح على مطاعمه وأغذيته و يميز الطيب من الخبيث..، وهكذا إذا تأملت في الشفتين و حسن لونها وشكلها لتنطبق على الفم فتسد منفذه و ليتم بها حروف الكلام وخلق الحنجرة وهيأها لخروج الصوت وخرج اللسان قدرة للحركات والتقطيعات لتتقطع الأصوات في مخارج مختلفة تختلف بها الحروف ليتسع بها طريق النطق لكثرتها، ثم خرج الحناجر مختلفة الأشكال في الضيق والسعة والخشونة والملاسة وصلابة الجوهر ورخاوته والطول والقصر حتى اختلفت بسببه الأصوات فلا يتشابه صوتان بل يظهر بين كل صوتين فرقاً حتى يميز السامع بعض الناس عن بعض بمجرد الصوت في الظلمة.. إلى غير ذلك من الآلاء والنعم..
ثم تفكر في ما يحدث في خلق الجنين في الرحم في ظلمات ثلاث..ولو كشف الغطاء والغشاء وامتد البصر لرأيت التخطيط والتصوير يظهر عليها شيئاً فشيئاً ولا ترى المصوّر و لا آلته فهل رأيت مصوراً أو فاعلاً لا ترى آلته ومع ذلك يتشكل خلقه سبحانه وتعالى..
ثم من تمام رحمته أنه لما ضاق الرحم عن الصبي لما كبر كيف هداه السبيل حتى تنكّس و انقلب وتهيأ للخروج وتحرك وخرج من ذلك المضيق وطلب المنفذ كأنه عاقل بصير بما يحتاج إليه، ثم لما خرج واحتاج إلى الغذاء كيف هداه إلى التقام الثدي ، ثم لما كان بدنه سخيفاً لا يحتمل الأغذية الكثيفة كيف دبر له في اللبن اللطيف المستخرج بين الفرث والدم شيئاً سائغا خالصاً، وكيف خلق الثديين وجعل فيهما اللبن و أنبت منهما حلمتين على قدر ما ينطبق عليهما فم الصبي ..قدر الحلمة على قدر فتحة الفم في الصبي ثم فتح في حلمة الثدي ثقباً ضيقاً جداً حتى لا يخرج اللبن منه إلا بعد المص تدريجاً فإن الطفل لا يطيق منه إلا القليل ثم كيف هداه إلى الامتصاص حتى يستخرج من ذلك المضيق اللبن الكثير عند شدة الجوع، ثم انظر إلى عطفه ورحمته ورأفته كيف أخّر خلق الأسنان إلى تمام الحولين، لأنه في الحولين لا يتغذى إلا باللبن فيستغني عن السن وإذا كبر لم يوافقه اللبن السخيف ، و يحتاج إلى طعام غليظ ويحتاج الطعام إلى المضغ والطحن فأنبت له الأسنان في وقت الحاجة..فسبحانه كيف أخرج تلك العظام الصلبة في تلك اللثاة اللينة ثم حنن قلوب الوالدين عليها للقيام بتدبيره في الوقت الذي كان عاجزاً عن تدبير نفسه..، فلو لم يسلط الله الرحمة على قلوبهما لكان الطفل أعجز الخلق عن تدبير نفسه ، ثم انظر كيف رزقه القدرة والتمييز والعقل والهداية تدريجاً..حتى يتكامل فيصير مراهقاً ثم شاباً ثم شيخاً إما شاكراً أو كفوراً{ هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئاً مذكوراً، إنا خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج نبتليه فجعلناه سميعاً بصيراً، إنا هديناه السبيل إما شاكراً وإما كفوراً}، فتأمل وتفكر في عظمة الرب سبحانه وتعالى وهذا في شيء واحد من مخلوقاته وهو الإنسان وفي الإنسان أشياء كثيرة أخرى وكثير منها غير معلوم للآن فما بالك فيما جعل في الأرض في أكنافها وأنهارها وجبالها وهيأ السكن للساكن و جعل الأرض فراشاً وكيف جعلها كفاتاً وأنه أرساها بالجبال الرواسي وأودع فيها المياه وفجر العيون وأسال الأنهار و جعل خزانات جوفية {و ما أنتم له بخازنين}، وهكذا ترى في البوادي والأزهار والثمار والمعادن والجواهر وانقسامها إلى خسيس و ثمين وهكذا جعل منها ما يصنعه الإنسان من حاجته وحتى الحلي والنفط والكبريت و القار وحتى الملح الذي يحتاجه لتطييب طعامه و ما في هذه الحيوانات من الأمور العظيمة والتناسب الدقيق الهندسي فترى العنكبوت يبني بيته على طرف نهر فيطلب أولاً موضعين متقاربين بينهما فرجة بمقدار ذراع فما دونها حتى يمكنه أن يصل بالخيط بين طرفيه ثم يبتديء ويلقي اللعاب الذي هو خيطه على جانب ليلتصق به ثم يغدو إلى الجانب الآخر فيحكم الطرف الآخر من الخيط ثم كذلك يتردد ثانياً وثالثاً ويجعل بعد ما بينهما متناسباً تناسباً هندسياً حتى إذا أحكم معاقد القمط ورتب الخيوط كالسدى اشتغل باللُحمة (الكسوة)، فيضع اللحمة على السدى ويضيف بعضه إلى بعض ويحكم العقد على مواضع التقاء اللحمة بالسدى و يراعي في جمع ذلك تناسب الهندسة ويجعل ذلك شبكة يقع فيها البقّ والذباب و يقعد في زاوية مترصداً لوقوع الصيد في الشبكة فإذا وقع الصيد بادر إلى أخذه وأكله فإن عجز عن الصيد كذلك طلب لنفسه زاوية من حائط ووصل بين طرفي الزاوية بخيط ثم علق نفسه فيها بخيط آخر وبقي منكساً في الهوا ء ينتظر ذبابة تطير ، فإذا طارت رمى بنفسه إليها فأخذه ولفّ خيطه على رجليه وأحكمه ثم أكله وما من حيوان صغير ولا كبير إلا وفيه من العجائب ما لا يحصى.. ، أفترى أنه تعلم هذه الصنعة من نفسه؟أو تكون من نفسه؟أو علمه آدمي؟
فإذاً البصير يرى في هذا الحيوان الصغير من عظمة الخالق المدبر وجلاله وكمال قدرته وحكمته ما تتحير فيه الألباب والعقول فضلاً عن سائر الحيوانات ، وإذا رأيت حيواناً غريباً ولو دوداً تجدد التعجب .. وقال سبحان الله..!
والإنسان أعجب من الحيوانات..ومع ذلك إذا رأى حيواناً عجيباً تعجب وليس يتعجب من نفسه..!
وهكذا ما خلقه الله في البحار وما يكون في قيعانها وفي السحاب وما يجتمع فيها من المطر وكيف ينزل وفي ملكوت السموات والأرض..، والتفكر في مخلوقات الله قد أمر الله به وأنه سبحانه وتعالى مدح عباده {ويتفكرون في خلق السموات والأرض}وأمر في التفكر وحث عليه..في النفس {أولم يتفكروا في أنفسهم}.. يتفكرون في خلق السموات والأرض لماذا..؟ قال الشيخ عبد الرحمن السعدي رحمه الله : " ليستدلوا بها على المقصود منها ودل هذا على أن التفكر عبادة من صفات أولياء الله العارفين فإذا تفكروا عرفوا أن الله لم يخلقها عبثاً فيقولون{ ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك} يعني نزهناك عن كل ما لا يليق بك"، بعض الناس تفكره فقط إلى حد إتقان الصنعة وأنها صنعة جميلة لكن المقصود الأعظم ليس فقط التعجب من دقة الصنع بل لشيء وراء ذلك..
والتفكر في أمور الآخرة من الأمور المهمة جداً ، وحيث أننا ما رأينا الآخرة ولا عشنا فيها ولا عندنا الآن من ثمار الجنة شيء ولا سلاسل النار شيء، لكن عندنا من النصوص الشرعية ما يصف لنا بدقة بالغة كيف سيكون الحال يوم القيامة وهذه الأوصاف والتفاصيل من رحمة الله حتى نجد شيء نتفكر فيه، فلذلك كلما ازداد علمك بتفاصيل مافي اليوم الآخر كلما ازدادت حركة القلب في التفكر في هذه التفاصيل ، ولذلك لما سأل ابن المبارك ذاك لما رآه يتفكر قال له أين بلغت ؟ قال : الصراط..، التفكر كان يأخذ وقت طويل جداً عند العلماء والأولياء بل كانوا يقدمون التفكر على صلاة الليل..
عن يوسف بن أسباط قال لي سفيان بعد العشاء: ناولني المطهرة- الإناء الذي يتوضأ به- فناولته ، فأخذها بيمينه ووضع يساره على يده فبقي مفكراً ونمت ثم قمت وقت الفجر فإذا المطهرة في يده كما هي..فقلت هذا الفجر قد طلع.. فقال : لم أزل منذ ناولتني المطهرة أتفكر في الساعة..
لماذا ذكر الله أشراط الساعة ..؟ لتكون مجالاً للتفكر.. لا بد أن تشغلنا هذه القضايا دائماً و هذا من الخلل الموجود فينا أننا لا نتأمل..المشكلة أن مجالات التفكر اليوم يا في الحرام والعشق والحب والغرام أو في الدنيا فقط..طغت الحياة الدنيا على الناس.. فصار التفكير نادر في القضايا المهمة التي عليها مدار السعادة..
وجاء عن سفيان الثوري أيضاً أنهم كانوا جلوساً في مجلس فانطفأ السراج فعمّت الظلمة الغرفة فبعد ذلك أشعلوه فوجدوا سفيان رحمه الله دموعه انهمرت كثيراً كثيراً فقالوا مالك؟ قال : تذكرت القبر..
فنظراً لأن قلوبهم حية ممكن أي مشهد أو حدث يصير في الواقع يربطه مباشرة بالآخرة والقبر..
وأحد السلف كان على تنور فرن خباز فوقف ينظر في النار التي في التنور..ثم جعلت دموعه تنهمر فبكى بكاء حاراً..فقيل له مالك؟ قال: "ذكرت النار"..
قال ابن عباس:" ركعتان مقتصدتان في تفكر خير من قيام ليلة بلا قلب"..
قال عمر بن عبد العزيز:" الفكرة في نعم الله عز وجل من أفضل العبادات"..
وبكى عمر يوماً فسئل عن ذلك فقال:" فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر ، إن فيها مواعظ لمن ادّّكر"..
فمن رحمة الله أنه جعل لذات الدنيا مهما عظُمت فيها تنغيص وتكدير حتى لا يستسلم العباد إليها ومع ذلك يستسلمون إليها!
وسأل عبدالله بن عتبة أم الدرداء ما كان أفضل عبادة أبي الدرداء؟ قالت: "التفكر والاعتبار"..
نور الإيمان التفكر.. أفضل العمل الورع والتفكر.. تفكر ساعة خير من قيام ليلة..
كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: " اعلم أن التفكر يدعو إلى الخير والعمل به والندم على الشر يدعو إلى تركه"..
وعن محمد بن كعب القرظي: " لئن أقرأ في ليلتي حتى أصبح بإذا زلزلت والقارعة لا أزيد عليهما وأتردد فيهما وأتفكر أحب إلي من أن أهذ القرآن ليلتي هذّاً أو أنثره نثراً"..
قال وهب: " ما طالت فكرة امرئ قط إلا علم وما علم امرئ قط إلا عمل"..
قال فضيل: " الفكر مرآة تريك حسناتك وسيئاتك"..
عودوا قلوبكم البكاء وقلوبكم التفكر..
إني رأيت عواقب الدنيا
فتركت ما أهوى لما أخشى
فكرت في الدنيا وعالمها
فإذا جميع أمورها تفنى
وبلوت أكثر أهلها فإذا
كل امرئ في شأنه يسعى
أسمى منازلها وأرفعها
في العز أقربها من المهوى
تعفو مساويها محاسنها
لا فرق بين النعي والبشرى
وقد مررت على القبور
فما ميزت بين العبد والمولى
أتراك تدري كم رأيت
من الأحياء ثم رأيتهم موتى؟
فالإنسان عليه أن يديم التفكر ويطيله لأنه يوصل إلى مرضاة الله وانشراح الصدر وسكينة القلب ويورث الخوف و الخشية من الله ويورث العلم والحكمة والبصيرة ويحيي القلوب و يصير هناك اعتبار واتعاظ من سير السابقين.. هذا التفكر.. العمل القلبي العظيم..نسأل الله أن يجعلنا من الذين يتفكرون ومن الذين يعقلون ومن الذين يتدبرون..