يستشعر البعض تأخُّرًا في الفتوحات ويستبطئون تقلُّبًا في خاشع الدمعات؛ بينما يجدون إلى جوارهم من يكادون يذوبون تأثُرًا وخشية ويسمون في معالي الخشوع، ويحلقون في معارج التلذُّذ بالعبادة.
وبغض النظر عن حقيقة كون قلة التلذذ أو فقدان الاستمتاع ليس أبدًا دليلاً على عدم القبول، فإن هذا ببساطة قد يكون اختبارًا يحتاج من تعرض له لأن يفهمه ويدرك أبعاده، فليس شرطًا كما أشرت أن يكون ذلك علامة قسوة قلب أو دليلاً على احتجاب القبول أو انعدام رضا الرب؛ ولكن الاختبار قد يكون ها هنا للصدق وليجيب الإنسان سؤالًا حرِجًا عن أولويات نياته وترتيب مقاصده..
هل أعبده لأرضى أم ليرضى؟
هل أتهجد فقط لأتلذّذ وأستمتع، أم أقنُت من الليل ساجِدًا وقائِمًا حذِرًا من عذاب الآخرة ورجاء رحمة ربه؟
إن التلذُّذ والاستمتاع بالعبادة والبكاء من خشية الله، ومشاعر السمو وأحاسيس العلو في سماوات التذلُّل والتقلُب في درجات الخشوع والإخبات، هي بلا شك من فتوحات العبودية وبركات القنوت وفيوضات الركوع والسجود.
لكن النية الأعظم والمقصد الأسمى للعبادة والعمل الصالح إرضاؤه.
أن يرضى ويغفر هذا هو الفوز، سواءً جاء الاستمتاع وحضرت اللذّة أو تأخّرت، المهم أن تبقى على الباب وألا تكِلَّ أو تمِلَّ إذا استبطأت حضور تلك المشاعر.. وهذا معيار صدق نفيس.
ولو نظرت فيما روي من حال (أويس القرني رحمه الله) لوجدت نموذجًا بديعًا على تفضيل رضا الله على ميل النفس، فالرجل أسلم وعاصر النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يستطيع اللحاق بالحبيب والتنعُّم بصحبته، ولا شك أن هذا أمتع للمحب من المكث بجوار أُمّه..
لكن المعيار لديه كان رضا الله والتقديم كان لمراد مولاه، والتفضيل كان للأحب لسيده والأجلب لرضاه، وقد كان ها هنا بِرّه بأُمّه واختار ذلك! فهل ضرّه هذا؟ أبدًا.. لقد زكَّاه الحبيب وسمَّاه خير التابعين وإن لم ينل شرف الصحبة! فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أمر من نال ذلك الشرف -الصحبة أعني- أن يسأل هذا الذي لم ينلها أن يستغفر له..
تخيل تابعي يستغفر لصحابي! أنعم به من فضل ناله ذلك المسترضي، فلتعبُد الله بإصرار، ولتعجل إليه ليرضى، ولتدُم على الباب مسترضيًا ولا تتململ حتى يُفتح لك، وَثِقّ أنه الفتَّاح جل وعلا..
وأنك إن صدقت فإنه سيفتح لك.. إن شاء الله سيفتح.