تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 1 شوال 1436هـ الموافق 18 يوليو 2015م
عدد الزيارات: 4862
وَمَضَتْ أَيَّامٌ مَشْهُودَةٌ، وَمَوْسِمٌ مَذْكُورٌ فَازَ فِيهَا أَقْوَامٌ مَغْفِرَةَ الذُّنُوبِ، وَحَازَ فِيهَا رِجَالٌ رِضَا عَلَّامِ الْغُيُوبِ، مَضَتْ تِلْكَ الْأَيَّامُ بِبِرِّهَا وَمَنَافِعِهَا، وَأَغْلَقَتْ مَعَهَا مَدْرَسَةُ الصيام أَبْوَابَهَا.
وإذا كان موسمُ الخيرِ قد رحلَ فلعلَّ من الخيرِ لنا أنْ نتواصى على عملٍ صالحٍ أوصى به الرحمنُ عَقِبَ رمضان، قال سبحانه: (وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) [البقرة: 185].
فالشكرُ عبادةٌ يُحبها اللهُ ويَرْضى عن أهلِها، (وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) [النمل: 40].
بالشكر كانت أولى وصايا الرحمن لبني الإنسان: (وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].
وأخبرَ عزَّ شأنه أن رِضاه في شُكره: (وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) [الزمر: 2].
بل لا يعبُده سبحانه حقَّ عبادته إلا الشاكرون يقول عز شأنه: (وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) [البقرة: 172].
وبالشكر لهج الأنبياء، وأوصوا بها أُممهم، وخير الخلق -صلى الله عليه وسلم- قام حتى تفطرت قدماه، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: "لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: "أَفَلَا أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا"؟!
عباد الله: وسائل الشكر لا تُحصَى، وميادينَه لا تُحصَر، اشكُروا ربَّكم على ما أظهرَ من جميل، وعلى ما ستَرَ من قبيح.
اشكروه بأداء حقوقه –تعالى- من فرائض ومستحبات.
كما يكونُ الشكرُ عند حصول النعم وتجددها، ولذا شرع لنا سجود الشكر.
وقد سجدَ نبيُّكم محمدٌ –صلى الله عليه وسلم- حين أخبرَه جبريل -عليه السلام- أن الله يقول: "من صلَّى عليك صلاةً واحدةً صلَّى الله عليه بها عشرًا".
وتَعدادُ النِّعم من الشكر، والتحدُّث بالنِّعم من الشكر، ومن أثنَى فقد شكَر، والقناعةُ شكرٌ؛ فكن قانِعًا تكُن أشكرَ الناس.
ومن أسدى لك معروفاً فحقه المكافأة، ومن قصُرت يدُه عن المُكافأة فليُكثِر من الشكر والثناء، ومن لا يشكُر القليل لا يشكُر الكثير.
ومن الشكرِ: أن لا يزالَ لسانُك رطبًا من ذكر الله، و"من قال إذا أصبحَ وإذا أمسَى: اللهم ما أصبحَ بي من نعمةٍ أو بأحدٍ من خلقِك فمنك وحدك لا شريك لك، فلك الحمدُ ولك الشكرُ، فقد أدَّى شكرَ يومِه".
ومن فضل الله ورحمته أنه يشكرُ لعباده، فهو الغفورُ الشكور؛ فالذي سقَى الكلبَ شكرَ الله له فغفَرَ له؛ فكيف بمن يُحسِنُ للمسلمين، ويتفقَّدُ المُحتاجين، ويتصدَّقُ على المُعوِزين، ويرحَمُ المُستضعَفين؟!
والذي أخَّر غُصن الشوك عن الطريق شكَر الله له فغفَرَ له؛ فكيف بمن يسعى في تيسير أمور الناس؟!
والشاكرون هم أطيب الناس قلباً، وأهنأهم عيشاً، وأوصلهم لما أمر الله به أن يوصل، يقنعون باليسير، ويستجلبون بالشكر المزيد، علموا أنهم وإن حرموا شيئاً فقد أعطوا أشياء.
الشاكرون لا يشكون المصائب وينسون النعم، بل ينسون مصائبهم في مقابل ما وهبهم الله من نعم، ولسان حالهم:
يا أيها الظالمُ في فِعْلِه *** والظلمُ مردودٌ على من ظَلَمْ
إلى متى وأنتَ وحتَّى متى *** تشكو المصيباتِ وتَنْسى النِّعَمْ
والشكر سبب للثبات على الإيمان وعدم الانقلاب على الأعقاب، وحين ارتدَّ من ارتدَّ من العرب يوم توفي عليه الصلاة والسلام، ثبت أهل الشكر، قال تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ) [آل عمران: 144].
وبَعْدُ يا أهل الشكر، فكم تصبحنا وتمسينا نعم دارَّة، نتقلب فيها ونحن غافلون عن شكرها، فأين الشكر على نعمة الجوارح وسلامتها؟! وأين الشكر على نعمة الأمن والرخاء؟! وأين الشكر على نعمة العقل؟! وأين الشكر على نعمة الأموال والأزواج والبنين؟! وقبل ذلك وأين شكرنا على نعمة الهداية للإسلام والإيمان؟!، فلم يجعلنا نسجد لصليب ولا صنم، ولا نغدو لبِيعةٍ أو نجثو على وثن.
إنها وغيرها نعم تستحق الشكر باللسان والقلب والجوارح.
ومسك الختام هذه البشرى من سيد الأنام الذي قال عن أهل الشكر: "الطاعم الشاكر بمنزلة الصائم الصابر" (رواه الإمام أحمد وغيره، وصححه ابن حبان والحاكم).
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) [إبراهيم: 7].
أخا الإسلام، قد رأيناك في شهر الصيام قانتا آناء الليل مع جموع المسلمينً، تَحْذَرُ الآخرةَ وترجو رحمةَ ربك، فلا يكن آخر حظك من صلاة الليل آخر ليلة من رمضان.
رأيناك أخي المبارك لـهَّاجاً بقراءة القرآن، مُسْتَعْذِباً بتلاوته، فلا تكن هاجراً له بقية عامك.
لقد رأيناك سخَّاءً بيمينك، تعطي بطيب نفس، فلا أقل من أن يكون لك ورد مع هذه الصدقات، تجعله على نفسك، تسل به عنك الشح، وتدفع عنك به النقم.
وتذكر يا رعاك الله تلك العهود والمواثيق التي أبرمتها مع ربك في سجداتك وأسحارك بالتوبة الصادقة، وطلب العفو والمغفرة، فإياك إياك أن تنقض هذه العهود بشهوة عابرة، ولذة طائشة يستهويك فيها الشيطان فـ(بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ) [الحجرات: 11].
صلوا بعد ذلك على خير البرية، وأزكى البشرية...