تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 30 شهر رمضان 1436هـ الموافق 17 يوليو 2015م
عدد الزيارات: 2749
ذهبت لياليه وانتهت، وانقضت أيامه وولت، وأيم الله إن ذهابه ليس كإيابه، ولا مقدمه كمنقلبه أبدًا؛ فمقْدمه بشرى وتهنئة، ووداعه آهات محزنة؛ لكن حسبنا أنا نفرح به ونأنس إليه ونشهد الله على ذلك وإن قصرت بنا الهمم وضعفت بنا الإرادة، وسلوتنا قول حبيبنا -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث عَبْدِ اللَّهِ عَنْ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ". صحيح البخاري (15/415).
شهرنا كان بمثابة ضيف نزل على قوم فمنهم الكريم حيث قام بما للضيف من حق وللنازل من واجب؛ فقام بما يقوم به الكرام لمن ينزلون ديارهم؛ يفتح له صدره ويلين له خطابه، يتهلل في وجهه ويبتسم لمقدمه، يؤثره على نفسه ويفيض عليه من خيره وفضله، فأدى حقه ونصح لله فيه وامتثل قول رَسُوله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ". صحيح البخاري (15/371) عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ الْكَعْبِيِّ.
ومنهم البخيل حيث لم يراعِ للضيف حقه؛ فكان حاله كحال اللئام لا يرفعون لأنفسهم رأسًا ولا يقدمون لها ذكرًا، بل عبسوا في وجه ضيفهم وتبرموا لمقدمه وتلكؤوا لوصوله وانصرفوا عنه إلى غيره، فزادهم خسة إلى خستهم، وغفلة إلى غفلتهم، وإعراضًا إلى إعراضهم؛ وعن هؤلاء ونظرائهم تحدث القرآن عنهم بقوله: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ) [البقرة: 26]؛ وهؤلاء لا بحق الصيام قاموا ولا من تبعاته سلموا.
ذهب ضيفنا يحمل في ذاكرته مدحًا لقوم وذمًا لآخرين، وسينقل تلك الشهادات المسطرة في مذكراته للأيام المعدوادت لتضاف إلى رصيد كل منا السابق، فمعتق نفسه أو موبقها ورابح وخاسر، قال تعالى: (وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ) [القمر: 53].
ضيفنا ستطوى صحائف زيارته وتلف سجلات لياليه ويومياته لتحمل بين أسطرها الحسن والقبيح، وتشمل الكرم والبخل، وتجمع اليقظة والغفلة، وتحوي الاجتهاد والفتور؛ فهنيئًا لمن كانت صحائفه مليئة بالطاعات والقربات، والحسرة لمن كانت ملطخة بالغفلة والخطيئات، وعن حال هؤلاء وأمثالهم قاله الله: (وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ) [الأنبياء: 97]. وقوله تعالى: (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ) [الشعراء: 205، 207].
الحقيقة الشرعية أنه ليس لنا أن نستدرك ما فات منا في شهرنا الراحل وغيره ولو اجتمع من في السماوات وعامرهن والأرضين وساكنهن على أن يعيدوا لنا يومًا ما كان لهم ذلك ولو كان بعضهم لبعض ظهيرًا؛ إلا أن نفتح صفحة جديدة نستدرك فيها ما بقي، كما أنه لا يمكننا استدراك ما بدر منا فيما مضى من عمرنا إلا أن نستغفر الله من ذلك ونقلع فيما سيأتي.
ثم إني أقول: هل ستتم فرحة من فرّط في شهر البركات وتقاعس في شهر القربات حين لا يبشر بالقبول في نهاية شهره أو لم تشمله مغفرة الله ويعمه ستره؟! وما يخشى على هذا أنه كتب في أم الكتاب شقيًا، أو تحققت فيه دعوة النبي -عليه الصلاة والسلام- كما في حديث مَالِكِ بْن الْحُوَيْرِثِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، قَالَ: صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْمِنْبَرَ، فَلَمَّا رَقِيَ عَتَبَةً، قَالَ: "آمِينَ" ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً أُخْرَى، فقَالَ: "آمِينَ"، ثُمَّ رَقِيَ عَتَبَةً ثَالِثَةً، فقَالَ: "آمِينَ"، ثُمَّ قَالَ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ، فقَالَ: يَا مُحَمَّدُ: مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْتُ: آمِينَ، قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ أَوْ أَحَدَهُمَا، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْتُ: آمِينَ، فقَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ: آمِينَ". قَالَ أَبُو حَاتِمٍ: فِي هَذَا الْخَبَرِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْءَ قَدِ اسْتَحَبَّ لَهُ تَرْكُ الانْتِصَارِ لِنَفْسِهِ، وَلا سِيَّمَا إِذَا كَانَ الْمَرْءُ مِمَّنْ يُتَأَسى بِفِعْلِهِ، وَذَاكَ أَنَّ الْمُصْطَفَى -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، لَمَّا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ: "مَنْ أَدْرَكَ رَمَضَانَ فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، "بَادَرَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِأَنْ قَالَ: آمِينَ، وَكَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: "وَمَنْ أَدْرَكَ وَالِدَيْهِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، فَدَخَلَ النَّارَ، أَبْعَدَهُ اللَّهُ"، فَلَمَّا قَالَ لَهُ: "وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ"، فَلَمْ يُبَادِرْ إِلَى قَوْلِهِ: "آمِينَ" عِنْدَ وُجُودِ حَظِّ النَّفْسِ فِيهِ، حَتَّى قَالَ جِبْرِيلُ: قُلْ: آمِينَ، قَالَ: قُلْتُ: "آمِينَ"، أَرَادَ بِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- التَّأَسِّي بِهِ فِي تَرْكِ الانْتِصَارِ لِلنَّفْسِ بِالنَّفْسِ، إِذِ اللَّهُ -جَلَّ وَعَلا- هُوَ نَاصِرُ أَوْلِيَائِهِ فِي الدَّارَيْنِ، وَإِنْ كَرِهُوا نُصْرَةَ الأَنْفُسِ فِي الدُّنْيَا. صحيح ابن حبان.
دائمًا يكون الفضل للضيف على ضيفه؛ أما ضيفنا فإن من الإنصاف شرعًا وعقلاً وفطرة أن نعترف أنه صاحب الفضل علينا؛ فما الذي قدمناه له حتى ندعي إكرامه؟! وماذا عسانا أهديناه حتى نزعم تقديره؟! وماذا قد نكون أعطيناه؟! بل العكس هو من منحنا أيامه الفاضلة ووهبنا لياليه المباركة؛ حيث فتحت فيه أبواب الجنان وأغلقت أبواب النيران، ثم ألم يأتِ بالعفو والمغفرة؟! ألم يقبل بالخير والبركة؟! ألم يحمل ليلة هي خير من ألف شهر؟! ألم تنشرح فيه صدورنا ؟! ألم نلتفت فيه لكتاب ربنا ونقبل على بيوته؟! ألم يخلق فينا الرحمة لبعضنا ويزرع فينا الالتفات للفقراء والمساكين؟! ألم يورثنا لعلكم تتقون؟! ألم يعرضنا لنفحاته ويمكننا من رحماته؟!
إن عيد الصائمين لا يخصك -أيها المفرّط-، وفرحة المجتهدين والمقبولين لا تشملك -أيها المردود-، وسعادة وبشرى المعتوقين لا تعنيك -أيها الغافل-، يا من لم يغفر لك إلا أن يشاء تعالى؛ إذ كيف تمتلئ حياتك بالفرحة والسعادة وداخلك الضنك والشقاوة وصحائفك سوداء وسجلاتك كلها أسى.
إلا أني أقول للمفرّطين والذين لم يحالفهم حظ السباق فيما مضى بين أيديكم فرص ومناسبات أخرى، فها هي أقدار الله -تعالى- يكسبكم الله فيها جولات لتعيدوا الكرة أخرى وتمنحكم محاولات تجددوا السباق مرة ثانية، وتذكروا قول الله -تعالى-: (وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ) [فاطر: 37].
وعلى المحسنين الذين وافاهم الحظ بالطاعة والقربة أن يثبتوا على الخير الذي خصهم الله به وحرم منه آخرين؛ إذ العبرة بالخواتيم ولا عبرة بالمقدمات إذا اختلفت النتائج؛ فقد يصلي العبد صلاة شرعية وينتقض وضوؤه آخر صلاته فتبطل صلاته كلها؛ ومن هنا يقال أن العبرة بما تموت عليه والحال التي يقبضك الله عليها.
وفي نهاية أسطرنا وختام جولتنا أرجو الله أن يكتب لنا جميعًا العفو والقبول فيما مضى، والخير والتوفيق فيما بقي، وأن يشملنا بجميل فضله، ويعمنا بواسع رحمته، وأن يقبل منا القليل من العمل، ويغفر منا ما صدر من الزلل.