تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 16 شهر رمضان 1436هـ الموافق 3 يوليو 2015م
عدد الزيارات: 3655
رمضان نعمة لا يستشعرها إلا العابدون، ولا يشتم عبقها إلا المخبتون، ولا يعايش أجواءها إلا التائبون الأوابون، وهو هبة الله لهذه الأمة، وعطيته لأهل الملة .. والصوم درة رمضان، وشعار أهل الفضل والإحسان.
يقول ابن القيم رحمه الله عن الصوم: "هو لجام المتقين، وجُنَّة المحاربين، ورياضة الأبرار والمقربين، وهو لربّ العالمين من بين سائر الأعمال، فإن الصائم لا يفعل شيئًا، وإنما يترك شهوته وطعامه وشرابه من أجل معبوده، فهو ترك محبوبات النفس وتلذذاتها، إيثارًا لمحبة الله ومرضاته، والعباد قد يطلعون منه على ترك المفطرات الظاهرة، وأما كونه ترك طعامه وشرابه وشهوته من أجل معبوده فهو أمر لا يطلع عليه بشر، وتلك حقيقة الصوم، وللصوم تأثير عجيب في حفظ الجوارح الظاهرة، والقوى الباطنة وحمايتها من التخليط الجالب لها المواد الفاسدة".
اختزال الصوم:
لكن من الغبن أن نختزل الصوم في مظهر الجوع والعطش، ونبتر فضائل هذا الشهر بسكين التقاليد الخاطئة والعادات الجافية، قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة:183] ولم يقل عز وجل تتخمون أو تسهرون أو تلهون أو تسيئون.
وقال صلى الله عليه وسلم: «الصوم جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يَرفُث ولا يَفسُق، فإن سابّه أحدٌ أو شاتَمَه فليقُل إني صائم» (البخاري).
فهل الجُنة إلا التحامي من الوقوع في سوء الخُلق مع الخَلق، والتجافي عن سوء الأدب مع الخالق، فمتى كان تكديس الطعام وكأننا قادمون على مجاعة من لزوميات هذا الشهر الفضيل؟! ومتى كان نوم النهار وسهر الليل من الشرع المأمور به في أي وقت وحين، فضلًا عن هذه الأيام المباركات؟! ومتى كان صرف الأوقات في الألعاب المسلية والأحاديث الحميمية والخيام والليالي الرمضانية هو السبيل للتغافل عن منغصات الجوع والعطش، واستهلاك ظلمة الليل حتى قبيل السحر؟!
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنه: "إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الكذب والمحارم، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينه يوم صومك، ولا تجعل يوم صومك وفطرك سواء".
وكان السلف أذا انقضى رمضان يقولون: "رمضان سوق قام ثم انفض، ربح فيه من ربح، وخسر فيه من خسر".
حقًا لا يشبع من رمضان إلا أهل الإيمان، وصدق الرحيم الرحمن: {إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى} [الليل:4].
أي إن عملكم أيها الناس لمختلف؛ منه الحسنة الموروثة للجنة، ومنه السيئة الموجبة للنار، منهم ساع في فكاك نفسه، وساع في عطبها.
ومجمل المعنى:
وحق الليل إذا يغشى النهار فيستر ضياءه، وحق النهار إذا تجلى وأسفر وأزال الليل وظلامه، وحق الخالق العظيم القادر الذى أوجد الذكور والإِناث، وحق كل ذلك، إن أعمالكم ومساعيكم -أيها الناس- فى هذه الحياة، لهي ألوان شتى، وأنواع متفرقة، منها الهدى ومنها الضلال، ومنها الخير ومنها الشر، ومنها الطاعة ومنها المعصية، وسيجازى سبحانه كل إنسان على حسب عمله.
[التفسير الوسيط].
ويواكب هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها» (أحمد والنسائي).
وقال صلى الله عليه وسلم: «كم من صائمٍ ليس لهُ من صَومه إلا الجوعَ والعطش، وكم من قائمٍ ليس له من قيامه إلا التعب».
قال ابن رجب رحمه الله: "وسر هذا أن التقرب إلى الله تعالى بترك المباحات لا يكمل إلا بعد التقرب إليه بترك المحرمات، فمن ارتكب المحرمات، ثم تقرب بترك المباحات، كان بمثابة من يترك الفرائض ويتقرب بالنوافل".
وقال صلى الله عليه وسلم: من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه (البخاري).
زاد البخاري في الأدب المفرد «.. والجهل ..».
قال البيضاوي: "فنفى السبب وأراد المسبب، وإلا فهو سبحانه لا يحتاج إلى شيء، وذلك لأن الغرض من إيجاب الصوم ليس نفس الجوع والظمأ بل ما يتبعه من كسر الشهوة وإطفاء ثائرة الغضب وقمع النفس الأمارة وتطويعها للنفس المطمئنة فوجوده بدون ذلك كعدمه".
إياك والسقوط:
لكن للأسف منا من يسقط أسير شهوة بطنه فيأكل عند الإفطار لدرجة التخمة التي تثقله عن صلاة التراويح، وحتى إن قام وصلى سرعان ما يحس بالتعب لأن عقله وذهنه أصبح عند قدميه، فهو يراوح بينهما، لا تلذذًا بالعبادة ولكن استثقالًا لها.
ومنا من يسقط أسير مشاغله وأعماله التي لا تنتهي، فما أن يفرغ من صلاة العشاء، إلا وتهفو نفسه لفعل هذا وترك ذاك وترتيب تلك، حتى يترك صلاة التراويح عن إيثار لدنياه تارة، وعن قناعة تارة أخرى أنها صلاة مستحبة وليست بواجبة، أو أن أعمالنا وسعينا في طلب المعيشة عبادة كالصلاة وسائر العبادات، غافلًا عن أن العلاقة بين العبادة والعمل علاقة تناغمية وتناسقية وتكاملية لا تعارضية.
ومنا من يسقط أسير علاقاته الاجتماعية فيسهر في الخيام الرمضانية والليالي الرمضانية مع رفقاء لا هم لهم إلا السمر والثرثرة، وربما الغيبة والنميمة في أجواء مفعمة بـ (الرمضانية) من حلوى رمضانية، وأغاني رمضانية، ومسلسلات رمضانية، وأفلام رمضانية، ومسابقات رمضانية، وفوازير رمضانية، وجوائز رمضانية!
وكما يقول أحد المحللين: "هؤلاء يريدون من رمضان أن يكون موسم ومناسبة أشبه بالكريسماس، وتحول إلى موسم للتبضع وحفلات اللهو واختفى كل ما هو ديني وهيمن الدنيوي فهم علمونا مناسبة ميلاد عيسى، ويريدون المضي من المسلمين على هذا النحو ذاته ليكون تراجع تدريجي للعقدي والإيماني في هذا الشهر، وتصاعد مقابل لكل ما هو مسل وعبثي ودنيوي من خلال الإعلام العربي"، قال تعالى: {وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً} [النساء: 27].
ومنا من يسقط أسير شهوته فيحتال لها بالسفر إلى خارج البلدة بدون حاجة وضرورة، بل من أجل تحليل الفطر لنفسه بحجة أنه مسافر، ومثل هذا السفر لا يجور ولا يحل له أن يفطر فيه، والله لا تخفى عليه حيل المحتالين وغالب من يفعل من المتحللين من روابط التدين الصادق.
علامات استفهام:
رمضان بهذه الطريقة السافرة السالفة يطرح العديد من التساؤلات:
هل هذا هو رمضان الذي شرع الله تعالى صيامه سبيلًا للتقوى؟!
وهل هذا هو رمضان المحطة الإيمانية السنوية والمقوي للعزائم والهمم ومعلم الصبر والبذل؟!
هل هذا هو رمضان الكابح للشهوات ومقوم سلوك الأفراد والجماعات؟!
هل هذا هو رمضان موحد مشاعر الأمة تجاه قضاياها؟!
هل هذا هو رمضان مذيب الطبقية والعنصرية؟!
روي عن الحسن البصري أنه مر بقوم يضحكون ويلهون فوقف عليهم وقال: "إن الله تعالى قد جعل شهر رمضان مضمارًا لخلقه يستبقون فيه بطاعته، فسبق أقواما ففازوا، وتخلف أقوام فخابوا، فالعجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه المسارعون وخاب فيه الباطلون، أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته".