تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 16 شهر رمضان 1436هـ الموافق 3 يوليو 2015م
عدد الزيارات: 1738
عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثةٌ لا تُرَدُّ دعوتُهم: الإمام العادل، والصائم حين يفطر، ودعوة المظلوم، يرفعها الله فوق الغَمام، وتُفتح لها أبوابُ السماء، ويقول الربُّ تبارك وتعالى: وعِزَّتي وجلالي لأنصرنَّك ولو بعد حين»؛ (رواه أحمد، والترمذيُّ، وابن ماجَهْ).
إن الحديثَ تناوَل دعواتٍ مستجابةً:
الأولى: دعوة الإمام العادل:
وهو كلُّ رئيسٍ يرْعى مصالحَ المسلمين، ويرْفَع شأنهم، ويُبعد الشر عنهم، وكل مَن كانتْ له رعايةٌ أو سُلطة على الناس؛ كالوزير، والمحافظ، والمدير، والعمدة، ورؤساء المصالح؛ مِن مدرسة، أو مستشفى، أو شركة، أو أي مرفق من مرافق الدولة؛ فهو إمامٌ في دائرته.
فهؤلاءِ جميعًا يجب أن يكونَ الناسُ أمام كل منهم سواسية كأسنان المشط؛ لأن الإسلامَ لا يُحابي ذا قرابةٍ، أو مالٍ، أو جاهٍ، أو سلطانٍ، ولا يميز بين الشريفِ والوضيع، بل يأخُذ الناس على جادة الحقِّ، ويُمَهِّد لهم سبيل إقامة الدين، ولا يقف في طريق الدعوة إلى الله، أو التأسِّي بالرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه ومُجانَبة البِدَع والخرافات، التي شوَّهَتْ معالم الدين، مِن غير إفراطٍ ولا تفريطٍ.
مِنْ أجْلِ ذلك يُؤَكِّد الإسلامُ على أن يكونَ وليُّ الأمر مِن ذوي الدين والكفاءة؛ لأن الدين يَصُون النفوسَ عن ميولها الضالة، ويَصْرِفُها عن الظُّلم، ويُراقب الضمائر في السِّرِّ والعلَن. كما يقضي الإسلامُ أن يكونَ كلُّ مَن بِيَدِه سلطة على الناس أسوةً لهم في دينه وأخلاقه وأعماله وتصرُّفاته، فإن كان مثلًا صالحًا اقتدوا به، ورغبوا في الخير معه، وإلا كان الشرُّ والوبال والخسران.
وكلُّ مَنْ يَتَوَلَّى إمارةً أو سلطةً في شؤون الدولة عليه أن يتصرفَ فيها بما آتاه الله من عقلٍ وفطنةٍ وخبرةٍ، ويجمع بين العدلِ والتقوى، فلا تأخذُه هوادةٌ في تطبيق الحدود الشرعيةِ، كما عليه أن يتخذَ بطانته ومستشاريه مِن أولي النُّهَى وأرباب الحِجا؛ قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ} [آل عمران:118].
وعليه أن يُحْسِنَ معاملةَ المحكومين؛ لأنَّ المعامَلة الطيبةَ تجلب المودَّة والمحبة، وتُؤَلِّف القلوب، وتثبِّت الطمأنينة في النفوس؛ قال تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران:159].
وحسبُك في هذا الباب مِن الرِّفق بالرعية أنه لما فعل المشركون ما فعلوا بالنبيِّ صلى الله عليه وسلم يوم أُحُد، وطُلب منه أن يدعوَ عليهم، قال: «اللهم اغفرْ لقومي؛ فإنهم لا يعلمون»، ولما فتَح الله عليه مكة لم ينتقمْ مِن أهلها الذين تآمروا على قتْلِه، فخرج مهاجرًا من مكة التي هي أحبُّ بلاد الله إليه، وقال لهم يوم الفتح: «ما تظنون أني فاعلٌ بكم، قالوا: خيرًا، أخٌ كريم، وابن أخٍ كريم، قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء».
فلو أخذ الحاكمُ وأخذ الناس أنفَسهم بما جاء في الكتاب الكريم، وسنةِ المعصومِ صلى الله عليه وسلم أدخله اللهُ تعالى في ولايته، ولا يخذُله، بل ينصرُه، ويُوَفِّقه إلى السداد، ويستجيب دعاءَه إذا دعاه. هذه الصفاتُ الطيباتُ في الحاكم العادلِ، تَرْفَعُه درجاتٍ عند ربه، ويأتي يوم القيامة على رأس قائمة السبعة «الذين يُظِلُّهم الله يوم القيامة، يوم لا ظِلَّ إلا ظلُّه» كما جاء في الحديث الصحيح.
ثانيًا: دعوة الصائم حين يفطر:
وذلك لأنَّ الصومَ صبرٌ وجهادٌ، وحبسُ النفس عن الشهوات، فالصائمُ يتقرَّب إلى الله تعالى بما افترضه عليه، واتخذ من صيامه قربةً يَتَوَسَّل بها إلى الله عز وجل، شأنُه في ذلك شأنُ أصحاب الغار الثلاثة، الذين تَوَسَّلوا إلى الله تعالى بأعمالهم الصالحة، فكشف عنهم ضرَّهم، واستجاب دعاءَهم. وإذا كان الصائمُ تستشعر جوارحه بالصيام، فيصون لسانه عن الكذب، وفُحش القول، وفضول القيل والقال، ويصون سمعه وبصره عما حرَّم الله تعالى، فدعاؤُه عند فطره مُستجابٌ.
ثم إن الصائمَ يغتنم أيام رمضان ولياليه، فينشط في الأعمال الصالحة مِن صدقةٍ وبِرٍّ، وحرصٍ على مجالس العلم، ومُدارَسة كتاب الله تعالى، ليرويَ قلبه، ويزدادَ به إيمانًا، وذلك كلُّه أعمالٌ صالحةٌ يتوسَّل بها الصائمُ فيدعو ربه بما يريد، بلا إثمٍ ولا قطيعةٍ، وسبحان مَن وصف نفسه في كتابه العزيز بـ {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ} [غافر:3]، وقال: {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} [البقرة:222].
ثالثًا: دعوة المظْلوم:
أما الدعوة الثالثةُ: فهي دعوة المظلوم التي ليس بينها وبين الله حجابٌ، ولما بعث النبيُّ صلى الله عليه وسلم معاذَ بن جبَل رضي الله عنه إلى اليمن أوصاه بقوله: «واتقِ دعوة المظلوم؛ فإنه ليس بينها وبين الله حجابٌ».
والمظلومُ هو الذي وقَع عليه غبنُ الظالم، الذي قد يكون مِن أصحاب الجاه والسلطان، فلا يقوى المظلومُ على دفْع مظلمتِه إلا بالالتجاء إلى الله تعالى، فيدعو على الظالم ليأخذَ بحقِّه منه.
وقد حذَّر الله الظالمين في كتابه الكريم في أكثرَ مِن آيةٍ؛ فقال تعالى: {وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ . مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ} [إبراهيم:42-43]، وقال: {وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ} [هود:113]، قال ابن عباس رضي الله عنه في تفسير هذه الآية: "هذا جزاءُ مَن ركن إلى الظالم بصُحبة أو مجالَسة، فما بالك بالظالم نفسه؟".
ومِن الظُّلم المماطَلة في تسديد الحقوق؛ كالدُّيون وغيرها، قال صلى الله عليه وسلم: «مَطْلُ الغني ظُلم»، وهو الذي يستطيع سداد دينه، ولكنه يلجأ إلى المماطَلة.ومِن الظلم اعتداءُ أحد الزوجين على الآخر، وعدم مُراعاة الحقوق التي أوْجَبَها الله تعالى على كلٍّ منهما للآخر.
ومِن المظالم التي وقع فيها الناسُ اعتمادُهم على قوانين تُخالِف شرع الله تعالى، معتقدين أن شريعة القانون فوق شريعة الله. فمِن ذلك تلك القوانين التي أفسدت العلاقة بين المستأجر ومالك الأرض، وأصبح المالكُ ذليلًا حقيرًا، لا يملك من أرضه شيئًا، ولا يملك أن يتصرفَ فيها بالبيع عند الحاجة، ويرى المستأجر يثري ويتصرَّف في الأرض كيف شاء، وإن أراد المالكُ بَيْع أرضه وقف المستأجر في سبيله، مستندًا إلى قانون جائرٍ يحميه، ويُسَلِّط على المالك سيفَ الظلم، فمَن قَبِل ذلك مِن المستأجرين بحجة سيادة هذا القانون (لا سيادة العدل وشريعة الله)، فلْيَسْتَعِدّ لمرضاة المظلوم يوم القيامة؛ {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [الشعراء:88-89].
وإني لا أقول ذلك جُزافًا، ولكن مِن واقع القضايا التي طَفَحَتْ بها المحاكمُ، حتى أربتْ على مئات الألوف مِن القضايا، وعجزتْ عن الإصلاح بين الناس، حتى كَثُرَت الشكوى، وعمَّت البلوى، ورفَع أهلُ الغيرة على الحق من النواب أصواتهم لكَشْفِ هذا الظلم عن المظلومين، وهيهات هيهات لِمَنْ يستجيب، أو يجد مَن يُلقي السمع وهو شهيد.
فالمظلومُ على أي وجهٍ كان إذا دعا الله تعالى يجد الله سميعًا مجيبًا، فلْيَحْذَر الظالمون مِن سوء العاقبة؛ فإنَّ ربك لبالمرصاد، الذي يُملي للظالم حتى إذا أخَذَهُ لم يُفْلِتْه، والظلمُ ظُلمات يوم القيامة، ومَن كانتْ لأخيه مَظْلَمة عنده فليتحللْ منها في دنياه قبل أن يأتيَ الظالمون يوم القيامة {سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ . لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ} [إبراهيم:50-51].