تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 11 شعبان 1436هـ الموافق 29 مايو 2015م
عدد الزيارات: 6650
يقول ابن الجوزي -رحمه الله-: (من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها ، نال خيرها، ونجا من شرها، ومن لم ير العواقب غلب عليه الحسُّ فعاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة وبالنصب
ما رجا منه الراحة، وبيان هذا في المستقبل ، يتبين بذكر الماضي وهو أنك لا تخلو ، أن تكون عصيت الله في عمرك، أو أطعته فأين لذة معصيتك ؟ وأين تعب طاعتك ؟ هيهات رحل كل بما فيه ).
قال تعالى:﴿ أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ * مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾(الشعراء:205 -207) ليكن هو ملك الدنيا كلها والناس كلها تسجد له وتعبده ومات
ودخل النار﴿ مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ ﴾ ليس الدنيا والآخرة ، لتكن الدنيا فقط ، الأمس كان سليم مائة بالمائة واليوم وقع على رقبته فأصابه شلل،هل يعتقد أن أمس كان في عافية لا، هيهات رحل كل بما فيه الذي فات مات ، مثل صحيح مائة بالمائة ، أمس فات كنت سليم اليوم أنت مريض ،أنت ابن اللحظة التي تعيشها مثل أي متعة تقع تحت الحواس، إنما هي متعة اللحظة .
أنظر مثلاً الطعام الذي تأكله والذي كل الناس تقول إذا ترك الصلاة يقول لك أكل العيش مر، الجميع يأكل العيش ، يعمل الحرام لأنه يأكل العيش،يترك الصلوات لأنه يأكل عيش،يأخذ الرشوة لكي يأكل عيش،.
فما هي قدر متعتك عند أكل العيش؟. أقل من ثلاثين ثانية،لماذا ؟ لأن مدة لذتك بالطعام هي مدة بقاؤه في فمك، والرسول- عليه الصلاة والسلام- يقول:" ضربت الدنيا لابن أدم مثلاً بطعامه لئن قزحه وملحه فانظر كيف يخرج "، هذه هي الدنيا، فأي إنسان عاقل هو الذي يراها على حقيقتها،لا يعطيها أكبر من قدرها، وفي رمضان وهؤلاء الذين يصلون بالعافية ثم يخرج ليجلس أمام التليفزيون
،والجماعة العباد الذين قاموا رمضان إيمانًا واحتسابًا،انتهى رمضان والاثنان يجلسون بجوار بعض البلطجي والرجل المجد، هل زاد عمر البلطجي؟، هل زادت صحته لما نام زيادة عن القائم؟ مثلاً: الذي لم يصم رمضان وهتك حرمة الشهر،ما الذي زاد عليه عن الذي صام وعطش وكادت أن تندق عنقه من العطش وظل صابرًا حتى المغرب وشرب .
إِذَا كَانَ الْحَالُ مُراً فَكَيْفَ يَصِلُ إِلَىَ الْمَآلِ الْحَسَنِ ؟ بشيئيين:-الإيمان: هو الذي يثبته على الصبر على مرارة الحال ، والنظر في تجارب الأمم والنظر في تجارب الصالحين وأحوالهم وعلى رأس الصالحين أنبياء الله كيف كان حالهم ؟ما وجد نبي إلا مضطهدا،لا يوجد نبي أرسله الله إلى قومه إلا عاندوه وقاوموه وافتروا عليه.
ولكن الأمر كما قال النبي- صلي الله عليه وسلم-:" كذاك نحن معاشر الأنبياء نبتلى ثم تكون العاقبة لنا " وكما قال تعالى:﴿وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ﴾(الأعراف:128) .
فالمؤمن حتى يتجاوز مرارة الحال لابد من إيمان يثبته وعلم يبصره :وهذا العلم هو العلم بتجارب الأمم ، وهي قصص الأنبياء الماضيين، تفتح القرءان وتقرأ قصص الأنبياء الماضيين تجدهم كانوا على أسوأ حال مع قومهم، ولا يزالون يتدرجون حتى يصل النبي إلى آخر مدي فيدعوا على قومه ، فيستأصل الله شأفتهم ويقر عينه بهلاكهم ، فما من نبي إلا رأي هلاك قومه بعينيه إلا النبي –صلى الله عليه وسلم- لأنه دعا ربه- عز وجل- ألا يهلك أمته ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾(التوبة:33) .
فهذه الأمة هي الأمة التي لم يهلكها الله- عز وجل- في حياة نبيها وهذه بشارة خير، لكن ما من أمة إلا وأهلكها الله في حياة نبيها .
يقول ابن الجوزي: ( والبصيرة هي رؤية الشيء على حقيقته بلا مخادعة ولا مُوارَدة )وأنظر إلى قول ربنا- عز وجل-:﴿ بَلِ الإنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ ﴾(القيامة:)15،14 ).
الشاهد: أن يعرف الإنسان نفسه جيدًا،حتى إذا أظهر من العذر ما أقنع به الناس فهو يعرف الحقيقة،يعرف من الداخل أنه مخادع أم لا،صح هو قام لكي يترافع ويبين أنه برئ أو يترافع ليبين أن موكله بريء وهو يعرف أن موكله قاتل وهو الذي قتل وربما يكونوا متعاونين مع بعضهم، وينجو لأنه يعلم كيف يجهز الأدلة ويعلم كيف يضع المقدمة والنتائج وغير ذلك، وطلع منها كالشعرة من العجين كل إنسان يعلم في حقيقة نفسه من هو حتى لو ألقى معاذيره أو جعل بينه وبين الناس من العذر ما يقنع الناس به من العذر ، فالبصيرة هي رؤية الشيء على حقيقته .
يقول بن الجوزي-رحمه الله- يقول: ( وهو أنك لا تخلو، أن تكون عصيت الله في عمرك ، أو أطعته ، فأين لذة معصيتك ؟ وأين تعب طاعتك ؟ هيهات رحَل كلٌ بما فيه ! فليت الذنوب إذ تَخلَت خلتِ ).
أي ليتها إذا انتهت لذتها ارتاحت النفس لكن الأمر ليس كذلك .,.
يقول: (وأزيدك في هذا بياناً: مثل ساعة الموت ، وأنظر إلى مرارة الحسرات على التفريط ، ولا أقول: كيف تغلب حلاوة اللذات ، لأن حلاوة اللذات استحالت حنظلاً، فبقيت مرارة الأسى بلا مقاوم).
يقول هب أن ملك الموت جاء إليك ليقبض روحك فاستمهلته يومًا أو شهرًا أو سنة فأمهلت وقد عاينت،هل إذا رجعت إلى حياتك كنت جادًا على مستوى فزعك الذي كنت تخاف منه أم سترجع إلى غفلتك ، وابن الجوزي يقول هنا مثل ساعة الموت وأنت ترى ملائكة الله- عز وجل- وليس هناك رجعة ، لو قيل ترجم حسرتك بقلم لا تستطيع ، وأنت الآن تعيش فجد ، وهذا كلام بن الجوزي .
يقول: (أتراك ما علمت أن الأمر بعواقبه ؟)أي أن المسائل بخواتيمها، وهذا فيه حديث سهل بن سعد الساعدي في الصحيحين قال-صلى الله عليه وسلم- -:" إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة حتى إذا كان بينه وبين الموت قيد ذراع أو قال قيد شبر عمل بعمل أهل النار فدخل النار " وهذا هو الحال والمآل ، .
" عمل أهل الجنة حتى إذا ما كان بينه ونبينها قيد ذراع أو قال قيد شبر عمل بعمل أهل النار فدخل النار ، وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار حتى إذا كان بينه وبين الموت
قيد ذراع أو قال قيد شبر عمل بعمل أهل الجنة فدخل الجنة " في حديث سهل بن سعد يقول:" وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة فيما يظهر للناس " ،
إِشْكَال وَحَلُّهُ: لأن هذه المسألة ربما تعمل مشكلة للناس ، كيف يعمل الزمن الطويل ولنفترض أنه سيعيش ستين سنة ، يعمل خمسة وخمسين سنة أو تسعة وخمسين سنة بعمل أهل الجنة وسنة بعمل أهل النار يدخل النار ، هذه التسعة والخمسين سنة أخرج منهم خمسة عشر سنة حتى يبلغ ويجري عليه القلم والتكليف ، العمر الطويل كله أين ذهب، قال فيما يظهر للناس، كان مرائيًا ولم يكن مخلصًا في عمله ، أي صلاة يصليها ، أي عمل يعمله ، أي نفقة ينفقها أي حج يذهب إليه وهذا الكلام ، فيما يظهر للناس.
,الذين كان يعمل لهم أعطوه الأجر من الثناء والجوائز ، أخذ جائزة نوبل ، أخذ جائزة الدولة التقديرية، عملوا له مؤتمرات ، قعدوا يصفقون له ، وعملوا فيه الأشعار وألفوا فيه الكتب ، والمذيعين عملوا معه تراجم والدنيا كلها تتكلم عنه ، وتفتح صفحات الجرائد تجد صورته حتى أنك مللت من كثرة ما تراه ، كل هذا من الجزاء ، أنت كنت تعمل لذلك فأخذت ذلك وزيادة ، لكن والآخرة عند ربك للمتقين كما قال الله- عز وجل- .
فهذا أيضًا الحال والمآل ,فهو يقول أن الأمر بعواقبه ، الرسول -صلى الله عليه وسلم- في الحديث قال:" إنما الأعمال بالخواتيم " واحد صام حتى قبل آذان المغرب بدقيقة وشرب فاليوم كله ضاع
واحد صلي وقبل أن يسلم أحدث ، راحت الصلاة كلها عليه ، هذه هي بالضبط مثلها، يعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار أو بعمل أهل الجنة حتى إذا كان بينه وبينها قيد ذراع عمل بعمل أهل النار أو عمل بعمل أهل الجنة ، إنما الأعمال بالخواتيم .(فراقب العواقب تسلم، ولا تمل مع هوى الحس فتندم .)