تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 9 شعبان 1436هـ الموافق 27 مايو 2015م
عدد الزيارات: 5394
يقول ابن الجوزي- رحمه الله تعالي- : (من عاين بعين بصيرته تناهي الأمور في بداياتها ، نال خيرها، ونجا من شرها ، ومن لم ير العواقب غلب عليه الحسُّ فعاد عليه بالألم ما طلب منه السلامة وبالنصب ما رجا منه الراحة ).
يتلخص كلام ابن الجوزي - رحمه الله- في كلمتين الحال والمآل .الحال: هي الحَالَةِ الحَاله التي يعيشها الإنسان والمآل: هو ما ينتهي إليه حاله .فربما كانت الحالة مُرَه فانقلبت على غير ما يريد والعكس
ولا تنظر نقص البدايات ولكن أنظر إلى كمال النهايات ، وضربنا مثلاً بذلك بقصة يوسف- عليه السلام- .
نَضْرِبُ مَثَلا بِقِصَّةٍ مُوْسَىْ- عَلَيْهِ الْسَّلَامُ-:وأنتم تعلمون كما في مطلع سورة القصص أن الله- تبارك وتعالي- أمر أم موسى أن تلقي موسى في اليم كل هذا لينجو من فرعون، تمام القصة تعرفونها .
لكن الذي أرجو أن أقف عليه وهو ملتقط كلام بالحال والمآل قوله تعالى:﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ * وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ (القصص:9،8) .
الشاهد من الآية: الكلام فيه تقديم وتأخير، :﴿ فَالْتَقَطَهُ آَلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُم﴾ْ لَهُمْ قرة عين أم يكون لهم ﴿ َ عَدُوًّا وَحَزَنًا ﴾ ليكون لهم قرة عين, لأنهم لو علموا أنه سيكون لهم عدوًا وحزنًا ما التقطوه .
فيكون الكلام فيه تقديم وتأخير﴿ وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ أنه يكون لهم عَدُوًّا وَحَزَنًا ، لما التقطوه أرادوا أن يكون قرة عين
لكن الله- عز وجل- أراد أن يكون عَدُوًّا وَحَزَنًا لما تنظر إلى الحال ، حال موسى وأم موسى ، ألقته في اليم وأصبح فؤادها فارغًا .
بعض أهل التفسير: قال في تفسير قوله تعالى:(فارغًا) أصبح فؤادها خاليًا هادئًا (وهذا الكلام خطأ) ،لأن سياق الآيات ينكره , (إنما فارغًا): أي: طار فؤادها ولبها ، كما قال تعالي: ﴿ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ ﴾(إبراهيم:43) ، الإنسان إذا وقف يوم القيامة طار لبه وطار فؤاده لا يكون عنده قلب من شدة الهول والرعب ، فهي أم ألقت بولدها في اليم،كما يقول العلماء كان من المفترض فإذا خفت عليه
فضعيه في حرزٍ أمين ، أو في حرزٍ مكين وليس إذا خفت عليه أن ترميه في البحر ، لا .
ومع ذلك فعلت لأنها أُمرت بهذا ، لأن الله – عز وجل- قال:﴿ وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى ﴾(القصص:7) ، فهذا فيه أمر، الوحي هنا بمعنى الأمر ، أمرت أن تلقيه ، وغُلِبت على أن تلقيه، فألقته في اليم ، فأخذه فرعون عدوه ؟
فعندنا أمران : 1-ترميه في البحر 2-، ويلتقطه فرعون عدوه ، الذي من أجل أن ينجوا منه ألقته في البحر ,فيكون فؤادها فارغًا ، أي طار قلبها وطار لبها ، ولذلك قال الله- عز وجل-:﴿ إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي به﴾(القصص:10) من شدة خوفها ورعبها والهول التي تشعر به كادت أن تقول: هذا ابني وأنا رميته لكي أهربه من فرعون ، من كثرة الرعب ، لماذا؟ .
الانتظار أم الموت، لما يكون ولد تائه وبحثوا عنه في المستشفيات وأقسام الشرطة وبحثوا عنه في الأرض فلم يجدوه ، فيقولون لو مات ودفناه وعرفنا مثواه لاسترحنا ، لكن لا نعرف أين هو ،
وأين ذهب ؟ هل هو حي أم ميت ؟ يأكل يشرب ، معذب أم غير معذب ، فهذا هو العذاب الأليم .
لولا أن الله- عز وجل- ربط على قلبها لأفشت هذا الذي فعلته ,(فهذه الحال حال أم موسى وحال موسى)- عليه السلام- ، (وانظر إلى مآل موسى)- عليه السلام-
﴿ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ ﴾ (القصص:7) ، مآله في النهاية كان مآلاً حميدًا .
وَلَاحَظَ الْفِرَقَ مَا بَيْنَ مَا امْتَنَّ بِهِ الْلَّهُ- عَزَّ وَجَلَّ- عَلَىَ يُوَسُفَ- عَلَيْهِ الْسَّلَامُ- وَمَا امْتَنّ بِهِ عَلَىَ مُوْسَىْ- عَلَيْهِ الْسَّلَامُ-
قال في حق يوسف- عليه السلام- ﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾(يوسف:22) .
وقال في حق موسى:﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوي آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾(القصص:14) ، الذي زاد على موسى عليه السلام (واستوي )، لماذا ؟
لأن يوسف- عليه السلام- لم يرسل إلى جبار عنيد ولم يناظر أحدًا.
المناظرة التي أقامها يوسف- عليه السلام- كانت في السجن ، ﴿ يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ﴾(يوسف:39) ، أقام دعوة التوحيد ودعا إلى الله -عز وجل- في السجن وهذا كان في حال حاجة الناس إليه إنما موسى- عليه السلام- أرسل إلى أعتى جبار عرفته الأرض ، لم يدعي أحد الإلوهية وجحد الصانع إلا فرعون ، هو الوحيد الذي قال: وما رب العالمين ، لم يقولها أحدًا غيره .
الكفار كانوا يعتقدون ربوبية الله- عز وجل- ، أنما الذي يجحد ربوبية الله لم تحدث إلا في فرعون أو من تمذهب بمذهبه من الدهرية,جرى بين موسى- عليه السلام -وبين فرعون جولات في المناظرة ، ولأجل هذا لا ترى نبيًا جرى على لسانه ذكر الخوف أكثر من موسى- عليه السلام- ، في كل خطوة يقول أنا خائف:﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى ﴾(طه:67) ﴿ فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ ﴾(القصص:21) ، حياته كلها خوف حتى لما وقف في موقف المناظرة ورأى الهالة الكبيرة ،.
وفي بعض الآثار الإسرائيلية أن موسى- عليه السلام- لما وقف في موقف المناظرة مع فرعون فرأى ما هاله من شكل فرعون والوزراء والناس كلها يقفون لكي يشاهدوا على هذه المناظرة فخاف ﴿ فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الأعْلَى ﴾ (طه:68،67).
في هذا الأثر الإسرائيلي قال الله- عز وجل- لموسى- عليه السلام- وهارون: ( لا تنظرا إلى لباسه فإن قلبه بيدي )والمسألة كلها مربوطة بقوة القلب ، أي إنسان شجاع هذا لشجاعة قلبه ،
جبان لخفة قلبه ، والجوارح إنما هي تبع ، العضلات وغير ذلك كلها ليس لها أي قيمة إذا كان القلب ضعيفًاـ القوة في الحقيقة هي قوة القلب ، وليست قوة الجوارح أو غير ذلك .
إِذَا قَوِيَّ الْقَلْبِ أَعْطَىَ لِلْجَوَارِحِ قوة ، إِذَا ضَعُفَ الْقَلْبِ أَخَذَ قُوَّةً الْجَوَارِحِ : وموسى -عليه السلام -ناظر فرعون المناظرة الشهيرة التي هي في مطلع سورة الشعراء ، وكان موفقًا مسددًا بتسديد الله-
عز وجل- إياه في إقامة الحجة على فرعون ، لذلك ربنا- عز وجل- قال:﴿ وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ واستوي ﴾. استوي في أن يقف في مواجهة فرعون فعندنا الحال والمآل في قصة موسى وفرعون .
اللهم ياحي ياقيوم نسألك أن تصلح شأننا كله عاجله وآجله ظاهره وخفيه اللهم آمين.