تصنيفات المقال:
الزهد والرقائق
تاريخ النشر: 9 شعبان 1436هـ الموافق 27 مايو 2015م
عدد الزيارات: 13674
يقول بن الجوزي- رحمه الله تعالي- وهو يتكلم عن بعض المتزهدة الذين لا يعرفون أبجديات الأحكام الفقهية ،قال: ( ولقد بَلغَنا في الحديث عن بعض من نُعَظِمُه ، ونَزُوره ، أنه كان على شاطئ دجلة ، فبَال ثم تيمم، فقيل له الماء قريب منك ، فقال: خِفتُ أن لا أبلُغَهُ ،وهذا وإن كان يدل على قِصَر الأمل ، إلا أن الفقهاء إذا سمعوا عنه مثل هذا الحديث تَلاعبُوا به ، من جِهة أن التيمم إنما يصح عند عَدَمِ الماء ، فإذا كان الماء موجوداً كان تَحرِيك اليدين بالتيمم عَبثاً ، وليس من ضروري وجود الماء أن يكون إلى جانب المُحدِث ، بل لو كان على أَذرُعٍ كثيرةٍ ، كان موجوداً فلا فِعلَ للتيمم ، ولا أثَرَ حينئذٍ ,ومن تأمل هذه الأشياء ، عَلمَ أن فقيهاً واحداً - وإن قل أتبَاعَهُ ، وخَفَت إذا مات أشيَاعَهُ - أفضل من ألوفٍ تتمسحُ العَوام بهم تبركاً ، ويُشيعُ جَنَائِزهَم ما لا يُحصَى ، وهل الناس إلا صَاحِب أثَرٍ نتبعه ، أو فقيهٌ يفهمُ مًرَادَ الشرع ويُفتِي به ؟ ، نعوذُ باللهِ من الجهل، وتعظِيم الأَسلًافِ تقلِيداً لهم بغيرِ دليل ,فإن من وَرَدَ المَشربَ الأَولَ ، رَأَى سائر المَشاربِ كَدِرَةً ).
المشرب الأول :هو ما كان عليه أصحاب النبي-صلى الله عليه وسلم- وأنت إذا طالعت في سير الصحابة على وجه الخصوص لن ترى شيئًا شاقًا في الدين أبدًا ، تشعر بيسر الدين وتستمتع به الذي عقد المسائل كثرة تشقيق المتأخرين للكلام ، ووسوستهم في مسائل الورع ، فإذا حاولت أن تتأسى بالمتأخرين صعب ذلك عليك ,وأنا أريدك أن تطالع واحد من الصحابة وترجمة واحد ممن جاءوا بعدهم وإن كان من أهل العلم .
إتباع الصحابة فيه سهولة: لا تشعر بأي عقد وأنت تقرأ في حياة الصحابة ،وتشعر بشيء من الصعوبة إذا حاولت أن تتبع عالماً من العلماء في تشقيقات الورع عنده >
وهو كان يستطيع أن يفعل ذلك فعلاً وعنده من القدرة أن يتحمل الحرمان ، لكن أنت ليس عندك ذلك .
سفيان الثوري: كنموذج :سفيان الثوري ما نقلت أخباره إلا بعدما استتمت إمامته ، فأنت مبتدئ وهو منته ، أضف إلى ذلك أن مثل سفيان نشأ نشأة صحيحة في مجتمع الإسلام >
يظلله بدل العالم ألوف العلماء وكان سفيان في الكوفة والكوفة هذه كنت تغص بجماهير العلماء ، فضلاً عن سائر بلاد الإسلام .
ولكن أنا أضرب المثل بسفيان : تمم الفرائض على وجهها فسهل عليه أن يأتي بالنوافل فإذا وصل إلى قبة النوافل سهل عليه أن يتورع وأن يؤدب نفسه.
لكن واحد لم يتمم الفرائض ويريد أن يصل إلى مسائل الورع سينكسر مباشرة ، كيف يتورع ، لم يجرب الحرمان.
عليك بالشَربِ الأول وهو ما كان عليه الصحابة : ترى الدنيا سهلة ويسيرة ثم عليك بالتابعين ، كلما نزلت في الزمان كلما تعقدت المسائل أكثر ، حتى وصلنا إلى القرن الرابع الهجري .
وبدأ مذهب التصوف يظهر بأصوله وبدأت الرياضات الغريبة تظهر في هذه الأمة وأخذوا من رهبانية النصارى وغير ذلك وأدخلوا على هذه الأمة شيئًا من الشغب الكثير في صورة الزهد وفي صورة الورع .
يشير إ ابن الجوزي إلى هذا وحتى يكرر العبارة بنصها(:عليك بالشرب الأول ومن تأمل الشرب الأول رأى كل المشارب كدرة )
قال: ( والمحنة العظمى )في هذه المسألة كلها ، لأنه يقول:( أن فقيهاً واحداً - وإن قل أتبَاعَهُ ، وخَفَت إذا مات أشيَاعَهُ - أفضل من ألوفٍ تتمسحُ العَوام بهم تبركاً ).
ابن الجوزي يشير إلى هذا الضرب من الناس: إنسان جاهل وليس عنده شيء يرد البصر ومع ذلك أنظر ماذا يفعل معه العوام .
فيقول- رحمه الله-: ( والمحنة العظمى مدائح العوام ، فكم غرت ،كما قال علي رضي الله عنه: ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً ).
وهذه الكلمة رأيتها لمحمد بن سيرين: ( ما أبقى خفق النعال وراء الحمقى من عقولهم شيئاً ) رجل يمشي والعوام يجرون وراءه ، كل الذي يجري يريد أن يتمسح به أو يضع يده عليه >
فخف النعال وراء هذا الرجل ، ما أبقى من عقله شيئًا ، بحيث أنه تعود على المدح ولا يقبل مطلقًا أي نقد ، وهذه قضية النفس.
وانظر إلى بن القيم رحمه الله له كلمة جميلة قال: (في كل نفس شيءٌ من دواعي الإلوهية ، الذي يغذيه الكبر ، كل إنسان فينا عنده هذه النزعة واعتبر بفرعون غير أن فرعون قدر فأظهر وغيره عجز فأضمر) فرعون لما قدر قال: أنا ربكم الأعلى ، هناك ناس هكذا على استعداد أن تقول أنا ربكم الأعلى لكنه جبان ، لا يقدر أن يقول أنا ربكم الأعلى وإن كان كل تصرفاته تدل على هذه النزعة الموجودة في النفس ,فهؤلاء إذا أقبلت الدنيا عليهم منحتهم محاسن غيرهم وإذا أدبرت عنهم سلبتهم محاسن ذواتهم.
أبرك الناس عملًا هم أهل العلم : لأن الكلمة الواحدة يهتدي بها الحائر وممكن يهتدي بها ألوف مؤلفة فالعالم,هو أكثر عائدًا مثل منبع النهر ، العالم مثل منبع النهر .
ولذلك الإمام سئل الإمام أحمد – رحمه الله-: (عن رجل يرد على أهل البدع ورجل يقوم الليل ، أيهما أفضل )؟ قال الذي يرد على أهل البدع أفضل لأن الذي يصلي إنما يصلي لنفسه ،
أما الذي يرد على أهل البدع إنما يصون جناب الشريعة ، فعائدته أكثر من عائدة الذي ينتفع بنفسه فقط >
وهذا من أكبر المحفزات علي طلب العلم ، كالضوء كالشمس إذا خرجت أضاءت الكون كله في مرة واحدة .
يقول: (وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما: (فقيه واحد ، أشد على إبليس من ألف عابد .)وهذا يصلح أن يكون موقوفًا علي بن عباس لأن هذا الحديث رواه الترمذي وغيره من حديث بن عباس مرفوعًا إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- لكنه حديث باطل لا يصح في إسناده راوي اسمه روح بن جناح وهذا يروي الموضوعات عن الثقات كما يقول بن حبان – رحمه الله- ،
وفيه أيضًا فيما أذكر الوليد بن مسلم الدمشقي وكان يدلس تدليس التسوية ، ومدلس التسوية يجب عليه أن يصرح في كل طبقات السند ولا يصرح عن شيخه فقط بل يقول حدثنا فلان
قال:حدثنا فلان ، قال: حدثنا فلان حتى يصل هذا الإسناد هكذا مسلسل بالتحديث إلى الصحابي أو على الأقل إلى التابعي ، فأصبح عندنا علتان
أقوى العلتين هذا الراوي الذي اسمه روح بن جناح وهو مكسور الجناح لأنه كان يروي الموضوعات علي الثقات .
يقول: (ومن سمع هذا الكلام فلا يظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلمه) . لأن بعض الناس تفهم خطأ ، لما نتكلم على أن الدنيا يجب أن نكون في يدك وليس في قلبك يفهم خطأ ، لا ،
ابن الجوزي لما كان الكلام يوهم يقول: أنا لا أدعوا إلى الكسل ، اليوم في كلام الإمام أحمد- رحمة الله عليه- الرجل الذي يصلي طول الليل أو الرجل الذي يرد على أهل البدع أو الذي يطلب العلم لأن فيه مسألة تنازع أهل فيها وهي:
أَيُّهُمَا أَفْضَلُ طُلِبَ الْعِلْمِ أَمْ صَلَاةُ الْنَّافِلَةِ ؟ :فالمسألة فيها تفصيل لا نقول قيام الليل بإطلاق هو الأفضل ولا نقول طلب العلم هو الأفضل بإطلاق ، إنما على حسب عائدة هذا وهذا على الإنسان .
فهو يقول لا تظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلم ، وأنا لما أنقل كلام الإمام أحمد فهذه ليست دعوة إلى البلطجة، ولا أنك لا تقوم الليل ، والإمام أحمد – رحمة الله عليه- كان معه المروزي في يوم من الأيام فنام دون أن يقوم الليل ثم أن المروزي كأنه بيكلمه ، فقال له أنا حالاً قمت من النوم الآن ، فقال له طالب علم لا يكون له ورد بالليل .
سفيان الثوري- رحمة الله عليه-: طلب ماءاً لكي يتوضأ لقيام الليل ، فوضع أمامه الإناء فيه الماء وعمل هكذا ، وضع يده على فمه حتى أذن الفجر فالذي وضع له الماء لما قام من النوم
وجده يجلس على هيئته ، فقال له أنت لم تتوضأ ؟ قال له: ذكرت الموت ، هذه عبادة ، لم يتوضأ ولم يقم الليل ، ولكن ذكر معنًى كبيرًا ، ذكر الموت .
وكان سفيان الثوري كما يقول يحي بن سعيد القطان ، كان سفيان الثوري إذا ذكر الموت لم ننتفع به أيام ، حتى أخذوه إلى الطبيب وكان يبول دمًا ، فقال الطبيب هذا بول رجل خائف وهذا توصيف الطبيب فالتفكر في حد ذاته عبادة ، كونك تقعد تتفكر في شيء ، المهم لا يضيع شيء من عمرك هباء .
يقول ابن الجوزي: لا تفهمني خطأ ليس معنى أنني أنكر على هؤلاء أنني أمدح من لا يعمل بعلمه يقول: (ومن سمع هذا الكلام فلا يظنن أنني أمدح من لا يعمل بعلمه ،
وإنما أمدح العالمين بالعلم ، وهم أعلم بمصالح أنفسهم ، فقد كان فيهم من يصلح على خشن العيش ، كأحمد بن حنبل ، وكان فيهم، من يستعمل رقيق العيش كسفيان الثوري،
مع ورعه ، ومالك مع تدينه ، والشافعي مع قوة فقهه ، ولا ينبغي أن يطالب الإنسان بما يقوى عليه غيره، فيضعف هو عنه ، فإن الإنسان أعرف بصلاح نفسه ،
وقد قالت رابعة: إن كان صلاح قلبك في الفالوذج فكله.)
وهذا الكلام الذي يقوله بن الجوزي كلام نفيس ، ليس كل الناس على ميزان واحد من القوة أو العيش هناك إنسان لا يصلحه إلا أن يكون مرفهًا ،
ولئن عشت في قصر منيف تعمر جنباته بالتسبيح كان أفضل من أن تسكن في كوخ تتقلب فيه أشِرًا وبطرًا ، ليست القصة أن تكون من المنعمين ،
لا ، أنت رجل نشأت طيلة عمرك على الترفه ، منذ أن ولدت عشت هكذا على الترفه ، فإذا منعت من هذا الترفه ذهب قلبك حسرات ، أنا أقول لك تنعم بما أحل الله لك إذا كان صلاح قلبك فيه.
يقول بن الجوزي: ( إذا كان خشن العيش هو الذي أصلح الإمام أحمد فإن رقيق العيش هو الذي أصلح سفيان مع زهده.وكان مالك صاحب هندام مع تدينه وورعه )ومعروف مالك إذا ذكر أصحاب الهندام من العلماء يوضع مالك في أولهم وكان رقيق العيش أيضًا وكان صاحب ترفه – رحمة الله عليه- وما كان يحدث إلا على طهارة ، إذا سأله أحد عن حديث أو مسألة فقهية
إذا كانت مسألة فقيه يجاوبه أما إذا كان حديث يغتسل ، وهذا من جملة الترفه أنه يغتسل على طول وله نية صالحة.
وكذلك الشافعي- رحمه الله- كان صاحب ترفه في أخر حياته لكن كان في مبدأ حياة الشافعي كان فقيرًا إنما كان في أواخر حياته صاحب ترفه مع قوة فقهه .
فهو يقول: ( رب خصلة أنت تصلح عليها يفسد عليها غيرك )وهذه مواهب قد يفتح لك في الصلاة ولا يفتح لك في الصيام ، يفتح لك في طلب العلم ولا يفتح لك في باب آخر .
فَلَا يَجُوْزُ أَنْ تحْتَقَرُ أَحَدٌ لَمْ يَفْتَحْ لَهُ مِثْلَ مَا فَتَحَ لَكَ فِيْ فَنٍّ مِنْ الْفُنُونِ أَوْ عِبَادَةٍ مِنْ الْعِبَادَاتِ : وقد روى الطبراني في المعجم الكبير بسند صحيح عن عبد الله بن مسعود- رضي الله عنه-
لما سئل عن قلة صيامه وكان قليل الصوم ، فقال" إن القرءان والصلاة أحب إليً والصيام يضعفني عنهما "فأنت إذا فتح لك في شيء ما ولم يفتح لآخر فاعلم أن له خبيئة من عمل ممكن يكون هو أيضًا مفتوح له في شيء أفضل مما فتح عليك به .
القصد: أن الإنسان أنما يراقب حال نفسه ولا يستقوي عليها ، إذا كان من أهل الترفه ويريد أن يتزهد مثلاً ويرى أنه لو ترك ما فيه من الترفه أن هذا يضعفه فعليه أن يتدرج شيئًا فشيئًا حتى يصل إلى المرتبة التي يريدها .
يقول بن الجوزي :(ولا تكونن أيها السامع ممن يرى صور الزهد ، فرب متنعم لا يريد التنعم، وإنما يقصد المصلحة ، وليس كل بدن يقوى على الخشونة ،
خصوصاً من قد لاقى الكد وأجهده الفكر أو أمضَّه الفقر، فإنه إن لم يرفق بنفسه، ترك واجباً عليه من الرفق بها ، فهذه جملة لو شرحتها بذكر الأخبار والمنقولات لطالت ،
غير أني سطرتها على عجل حين جالت في خاطري، والله ولي النفع برحمته ).
قال تعالى:﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ﴾ (الأنعام:32)
نِعَمْ الْدُّنْيَا يَشُوْبُهَا الْكَدَرِ وَنِعْمَ الْآَخِرَةِ خَالِصَةً لِلْمُؤْمِنِيْنَ:الحياة الدنيا وتقف حتى يتم لك المعني وتفهمه صح ، لما لأنه ليس هناك نعمة خالصة من الكدر والشوائب في الدنيا أبدًا إنما تكون خالصة
يوم القيامة فقط إنما في الدنيا لا .
هناك من يشرب الماء العذب السلسبيل من ماء الفرات ومع ذلك يشرَق ويموت ، فليس هناك نعمة في الدنيا إلا ويشوبها كدر ، لكن نعم الآخرة خالصة للذين آمنوا ،
فإذا الإنسان إذا أنعم الله- عز وحل- عليه بنعمة فليُرى أثرها عليه ، إذا كان التدخل في هذه النعم سيدخله في مسائل الكبر وغير ذلك ، فهو يعلم حال نفسه ,
إذا كان يصبر على الخشن والممزق وهذا الذي يصلحه فليفعل ذلك ، وهذه وصية النبي- صلي الله عليه وسلم- إذا لم يكن هناك موجب ، فإذا لم يكن هناك موجب أن تواري هذه النعمة فأظهر هذه النعمة فهذا من شكر الله العملي ، والشكر قولي وفعلي ، ومن شكر الله العملي أن يظهر أثر النعمة عليه ، لأن هذا إنما يكون جزءًا من حمد الله تعالي .
اللهم اشف شيخنا الحويني شفاءا لا يغادر سقما.