تصنيفات المقال:
الدعوة إلى الله
تاريخ النشر: 18 شعبان 1436هـ الموافق 5 يونيو 2015م
عدد الزيارات: 3839
إن وقود الانتماء هو الحب: وللمحبة علامات تقطع بها وجه كل دعي للمحبة وهو عار عنها، وسنذكر بعض علامات للمحبة، وإنما آثرت ضرب المثل بأقوال المحبين في الدنيا لأقيم الحجة على الخلق بأمرٍ غير منكورٍ عندهم يسلمون به. إن المحب لا إرادة له مع حبيبه، ولو صارت له إرادة مع حبيبه فإن هذا قدحٌ في دعوى محبته، وكل الناس لا ينكرون هذا المعنى، فإذا عدّلناه إلى أجلّ محبوبٍ وهو الله عز وجل رأيت دعوى عريضة، ورأيت الكاذبين يتلو بعضهم بعضاً في أمر لا ينكرونه بينهم.
إن من علامات المحبة: الغيرة للمحبوب. وعليه فلا أتصور حباً بلا غيرة، فإذا رحلت الغيرة رحل الحب تبعاً لها، (والغيرة) هي: أنفةٌ أن يشاركني في محبوبي أحد، وهي نارٌ وتوهج يخرج من القلب حال ذكر المحبوب، وهي أنانية التفرد بالمحبوب، هذا هو أصل الغيرة: أن تغار له وعليه.
وكما ورد في الحديث الصحيح: أن هلال بن أمية الواقفي جاء إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- يوماً وقال: يا رسول الله! وجدتُ رجلاً مع امرأتي -ولم يكن نزل حد الملاعنة بين الرجل وامرأته، وكان الرجل إذا رمى امرأته أو غيرها بالزنا فرض عليه أن يأتي بأربعة شهداء وإلا جُلد- فجاء هلال بن أمية الواقفي ، وقال: «يا رسول الله! وجدت رجلاً مع امرأتي فقال: يا هلال ! أربعة شهداء أو حدٌ في ظهرك، فحينئذٍ انتفض سعد بن عبادة -سيد الخزرج- وقال: يا رسول الله! أدع لكعاً يتحسها وأبحث عن أربعة شهداء؟ ! والله ليس له إلا السيف غير مصفح! فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- للخزرج: انظروا ما يقول سيدكم -يستنكر عليه؛ لأنه يعارض آية في كتاب الله عز وجل- فقالوا: يا رسول الله! اعذره، فوالله ما تزوج امرأةً قط إلا بكراً، وما طلق امرأةً فجرأ أحدنا أن يتزوجها بعده، فقال النبي –صلى الله عليه وسلم- : أتعجبون من غيرة سعد؟ ! والله إني لأغير من سعد، والله أغير مني؛ لذلك حرم الفواحش».
الغيرة للمحبوب أن تنتهك حدوده، وأن يعتدى عليه.. هذه هي ثمار المحبة.
يسب نبينا –صلى الله عليه وسلم- ونسكت!!. إذاً: أين الحب الذي ندعيه؟ !إن احتلال اليهود لأرضنا وأخذهم لها شبراً شبراً لأهون عند الله عز وجل ورسوله وعباده المؤمنين من سب الله ورسوله، فعلى أي شيءٍ يتفاوضون؟ ! على أرض! ما قيمتها؟ ! ﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج:41]، بغير هذه العلامات وبغير هذه الرتب لا يحل لنا أن نرث الأرض. ولو أن رجلاً عربياً جاهلياً لا يدين بدين -كافرٌ بالله العظيم- حدث له عشر هذا؛ لانتفض ولرده أنفة وحياءً وكبراً.
إن ساب النبي –صلى الله عليه وسلم- حده القتل ولو تاب، ولو أظهر التوبة، رعايةً لجناب النبي –صلى الله عليه وسلم- ، ولأننا لو تركنا الساب ليقول: تبت، ثم يرجع ويسب: تبت؛ لاستهانوا بجناب النبي عليه الصلاة والسلام. ولكنه يقتل. إن الكافر التافه الذي لا يتكلم أهون من السابّ؛ ولذلك فقد فرق الرسول عليه الصلاة والسلام بين الكافر الذي لا يسب وبين الذي يسب، روى الإمام النسائي وأبو داود من حديث سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: «أمّن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الناس جميعاً يوم فتح مكة غير أربعة رجال وامرأتين، قال: اقتلوهم ولو وجدتموهم معلقين بأستار الكعبة: مقيس بن صبابة ، وعبد الله بن خطل، وعبد الله بن أبي سرح ، وعكرمة بن أبي جهل. فأما مقيس فأدركوه وقتلوه، وأما عبد الله بن خطل فأدركوه معلقاً بأستار الكعبة فقتلوه، وأما عكرمة ففر وركب البحر، وأما ابن أبي سرح فاختبأ عند أخيه من الرضاعة عثمان بن عفان رضي الله عنه، فلما دعا رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إلى البيعة العامة، خرج عثمان بن عفان وخلفه ابن أبي سرح، ووقف بين يدي النبي –صلى الله عليه وسلم- ، ثم قال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت، فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله، فسكت، فقال: يا رسول الله! بايع عبد الله ، فبايعه، ثم قال لأصحابه: أليس منكم رجلٌ رشيد إذ رآني كففت يدي عن بيعتي هذا أن يقوم إليه فيضرب عنقه؟ قالوا: يا رسول الله! هلا أومأت إلينا بعينيك؟ فقال: إنه لا ينبغي لنبي أن تكون له خائنةُ الأعين».
والسؤال الذي يطرح نفسه: جاء عبد الله بن أبي سرح تائباً فكيف يقتله والإسلام يجب ما قبله، وقد أسلم رجالٌ في فتح مكة كانوا من أكفر الكافرين وقبل منهم؟ فلماذا لم يقبل من ابن أبي سرح؟ لأنه كان يفتري على النبي –صلى الله عليه وسلم- ، وكان يكتب الوحي له، فكان يقول: كنت أملي محمداً ما أشاء!! فافترى عليه، وطعن في أمانته، وهذا من أعظم الكذب؛ لذلك استحق القتل، بخلاف الكافر الذي سبق منه إحسان. قال –صلى الله عليه وسلم- كما في الصحيح وقد نظر إلى أسرى بدر فقال:: «لو كان مطعم بن عدي حياً ثم خالطني في هؤلاء النتنى لأطلقتهم له»، فوصفهم بأنهم نتنى، وأخبر أنه لو المطعم بن عدي حياً ولم يسلم وجاءني ليفتدي هؤلاء لأعطيتهم له، مع أنه كافر، فما هو وجه التفريق بينهما وهذا كافر وهذا كافر؟ أن الثاني عنده نخوة وشهامة.
مثلاً: أبو طالب خفف الله عز وجل عنه العذاب -مع أنه كافر مخلد في النار- بسبب نصرته للنبي –صلى الله عليه وسلم- ، وقال تعالى: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ﴾ [المسد:1]؛ لأنه كان يسب النبي –صلى الله عليه وسلم- ، ففرق بين كافر نصير، وبين كافر يسب ويؤذي، وهما بخلاف الكافر الكاذب، ولذلك فإن افترى على النبي –صلى الله عليه وسلم- لا يموت أبداً بخير، فإن الله عز وجل قال:﴿إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ﴾ [الكوثر:3]، والأبتر: الأقطع من الخير.
وفي الصحيحين من حديث أنس رضي الله عنه: «أن رجلاً نصرانياً أسلم على عهد النبي –صلى الله عليه وسلم- ، حتى قرأ البقرة وآل عمران وجد في نظر المسلمين، ثم إنه تنصر وكفر ولحق بالروم، وقال: أنا الذي كنت أملي على محمدٍ القرآن، فقصمه الله عز وجل وقطع عنقه، فدفنوه؛ فأصبح الناس وقد لفظته الأرض، فقالوا: هذا فعل أصحاب محمد، نبشوا على صاحبنا وأخرجوه، فأعمقوا ودفنوه، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فأعمقوا ودفنوه، فأصبحوا وقد لفظته الأرض، فجلس منبوذاً هناك».
ألم تضم الأرض بين جوانبها أكفر الكافرين؟ هل رأيتم الأرض لفظت كافراً؟ كم ضمت الأرض بين جوانبها من الكافرين وما لفظتهم ولفظت هذا؟ لأنه اعتدى على النبي –صلى الله عليه وسلم- وسبه بداء الخيانة، وأنه كان يملي عليه القرآن.
في الماضي عندما كان هناك انتماء وولاء خالص للإسلام كان هناك أطفال في سن الرابعة عشرة أو الخامسة عشرة، أمثال معاذ بن عمرو بن الجموح ومعوذ بن عفراء ، لهم موقف شبيه بهذا الموقف، فقد روى الشيخان في صحيحيهما من حديث عبد الرحمن بن عوف قال: «كنت أقف في الصف يوم بدر، فإذا بغلامين، جاءني أحدهما فقال: يا عم! أتعرف أبا جهل؟ قلت: وماذا تريد منه يا ابن أخي؟ قال: بلغني أنه يسب النبي –صلى الله عليه وسلم- ، والله لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا، قال: ثم جاء صبيٌ مثله فغمزني وقال مثلها، فعجبت! فلما رأيت أبا جهل يجول في الناس قلت: هذا صاحبكما! فتوجها إليه فضرباه جميعاً، وكلٌ يقول: أنا الذي قتلته! فذهبا إلى النبي –صلى الله عليه وسلم- وكلٌ يدعي أنه قتله، -شرف أن يقتل عدو الله ورسوله، هذا هو قصب السبق، وهذا هو الولاء والانتماء- فقال النبي –صلى الله عليه وسلم-: هل مسحتما سيفيكما؟ قالا: لا. فلما نظر إلى السيفين قال: كلاكما قتله تطييباً لخاطرهما-».
إن الخطب فادح والأمر جلل، والذي وصلنا إليه ليس هناك شيءٌ بعده، أن يسب الله عز وجل -وقد سبوه- وأن يسب النبي –صلى الله عليه وسلم- -وقد سبوه وصوروه- فما هو رد فعلنا؟ ! إن امرأةً كشف اليهود عن سوأتها، وهي امرأةٌ نكرة، لا نعرف لها اسماً ولا رقماً ولا نسباً، ولكنها مسلمة، فنادت: وامعتصماه! فجرد المعتصم الجيش العرمرم ليرد عرض امرأةٍ مسلمة، وفتح عمورية، وأنشد أبو تمام قصيدته التي تناقلتها الكتب؛ لأجل امرأةٍ مسلمة.
إن هذه محنة، ومن المحن تأتي المنح، وقد قرأت خبراً عجيباً: قصة شيخ الإسلام ابن تيمية وهو الصادق المخبر في كتاب: «الصارم المسلول على شاتم الرسول» يقول: حدثني كثيرٌ من الثقات والعلماء الغزاة الذين كانوا يحاصرون بني الأصفر «الروم» أنهم كانوا يحاصرون المدينة شهراً وشهرين وأكثر، وأهل المدينة يتحصنون بالحصون وعندهم الأكل والشرب، قال: كنا نحاصرهم شهراً وشهرين وأربعة حتى كدنا أن نيأس في غزوهم، وإذا هم قد سبوا الرسول –صلى الله عليه وسلم- ، ففتحنا الحصن بعد يومين>
فقال هؤلاء العلماء: كنا نتباشر بسب النبي –صلى الله عليه وسلم- مع امتلاء قلوبنا غيظاً من ذلك، يتباشرون أي: يستبشرون، فإذا سمعوا أهل الحصن يسبونه عرفوا أن الفتح قادم: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة:61]، إن شانئه وسابه لا يموت بخير، وهو مهزوم، فكأنهم فعلوا ذلك بشارة، مثلما كانت بشرى لأسلافنا أنهم لم يستطيعوا فتح الحصن إلا بعد أن سبوه، فأسلمهم الله عز وجل لهم وفتحوا الحصن بعد يومين. واتفق العلماء على أن ساب النبي –صلى الله عليه وسلم- يقتل؛ مسلماً كان أو ذمياً؛ وذلك رعايةً لجناب النبي –صلى الله عليه وسلم-.